

✍️ فهد الرياحي
🌑 | مدخل الرحلة :
ابدأ بـ”نص مكثف بالمشاهد والصور، يمزج بين الرمز والحس، بين المكان والزمان، وبين القصة والحكمة، ليصبح كل مشهد مرآة للعقل والقلب. دعوة للقراءة… ورحلة لا تُقطع بالعين، بل تُعاش بالوعي.
أعود إلى العربات…
هذه المرة ليس كما في كل مرة ..!
ليست مجرد زيارة .. العودة عبور أمام باب مهجور، ليست تعبيراً عن شعور، بل مواجهة وحضور بصدر صبور،
إعلان عن رحلة لا تعرفها العيون. كل خطوة ليست مروراً .
بل توقيع على موعد مجهول . رحلة غامضة، تفاصيلها تختبئ بين جنح الظلام، ومضمونها يهمس من قلب الضباب.
خرجت في ليلة عاصفة، مطرها بارد ليلة مظلمة، لا أكاد أرى ما أمامي الضباب يزحف مع الأرض ككائن حي، والليل يهبط كثوب ثقيل، امشي متجة للمحطة ووصلت لبوابة السور الحديدي الذي يفصل الشارع عن المحطة.
اقتربت من باب السور المصدأ، وحين وضعت يدي على الباب وفتحتة صرخ بصرير حاد . كأنه يقول : ” اتركني في موتي”.بصوت المكان المهجور دخلت… فكانت المحطة أمامي كجثة معلقة .. أرصفة مكسورة .أعمدة متساقطة، وعربات مهجورة.
نور مصباح خافت على عمود يختبئ في عمق الضباب كعين وحيدة تراقب المكان. تقدمت نحو ضوء المصباح، فوجدت عربات بجانب السكة، فقدت توازنها من طول الانتظار واندفنت أجزاء منها في التراب، الأرض تشهق بخاراً ساخناً يختلط بالمطر البارد، والضباب يلف المكان كثوب رمادي مشبع بالصمت، والأرض تكاد تتنفس.
المحطة تقف كهيكل عظمي مات ولم يُدفن، والدخان يتسلل من بين الحجارة، كأن الأرض تشهق بصعوبة. العربات واقفة كجثث معدنية محطمة، نوافذها مفتوحة كأفواه تتنفس آخر أنفاسها، وكل حركة للريح تجعل الأبواب تصرخ بلا صوت. المكان كله يئن – تحت وطأة الزمن .. والدخان يتصاعد كأن الأرض تحاول أن تقول شيئاً.
ووقفت على رصيف محطة بدت كآخر ما نجا من حرب لم يدونها التاريخ . نظرت في سكة الحديد التي تمتد في الظلام بصمت ومع صمت المكان، اهتزت السكة… كان الاهتزاز إعلاناً .. عن قدوم قطار. اقترب صوت العجلات الصدئة، واختلط نور كشفات القطار بدخان المدخنة وضباب كثيف، وصرير العجلات المثقلة يصدر أنيناً، يحكي عن عربات تمشي ببطء، تحمل رسائل تآكلت، وذكريات ذبلت .
أصغي إلى صرير الحديد…
كأن المكان يكلمني بلغة سرية لا يسمعها إلا من عرف أن الانتظار له قيمة بليغة تقول:
“الانتظار ليس مجرد فقد .. بل شكل آخر من أشكال الوجود.”
كنت أراقب المشهد كمن يقرأ مذكرات مدينة ماتت، وأدرك أن المهجور ليس المكان بل نحن/ حين .. نترك أجزاء من حياتنا تتآكل بصمت دون أن نلتفت إليها .
“وصل القطار” بلا سائق، تقدمت فانفتح الباب من تلقاء نفسه. دخلت، فاستقبلتني رائحة الخشب المبتل والحديد المعتق، كعطر من زمنٍ آخر. العربات القريبة خالية من المقاعد، مشيت في ممر ضيق لآخر القطار، وجلست قرب نافذة مكسورة. من هناك رأيت أرضاً فارغة، تشبه قلباً مر عليه الشتاء طويلاً . الأوراق المتساقطة حول الأشجار بدت كرسائل أُرسلت إلى الدنيا، فعادت منها بلا جواب. لم يكن في المشهد أي حياة تُرى، ومع ذلك كان فيه صوت خفي، كأنه سر يُخبّئه المكان لمن يعرف كيف يرى.
دخل القطار رجل طاعن في السن، في يده كتاب، وفي الأخرى عكاز يطرق الأرض كأنه يوقظ شيئاً نائماً . جلس بجانبي، فتح كتابه، وتحرك القطار،
ثم قال: “ما رأيته في المحطة ليس دماراً… إنه شكل القلب حين ينهض بعد خذلان لم يتوقعه .”كلماته لم تكن حديثاً لي فحسب، بل تفسيراً للمشهد وشرحاً للصمت الذي يهبط على المكان مثل ثقل الحقيقة .
سحبت قلمي وبديت أكتب رسالة، كلمات تنساب من داخلي كجزء من الرحلة مثقلة بثقل المحطات.
حين بدأ القطار يتحرك، أصبح كل ضوء خافت يمر عبر النوافذ المكسورة، وكل اهتزاز للعجلات يرسل صدى الصمت عبر العربات، كأن القطار نفسه يتنفس معنا.
الهواء البارد، رائحة الخشب والحديد، وضباب الليل المحيط، كلها عناصر متشابكة تهيئنا للتجربة القادمة، حيث كل محطة ليست مجرد توقف، بل امتداد للتي قبلها، كل صوت وخطوة تهيئ القلب لاستقبال حكمة جديدة.
وهكذا تبدأ الرحلة، ومع كل محطة تتدفق الحكمة، دون حاجة لتفسير، فقط بالاستماع والملاحظة والشعور بالرحلة…
المحطة الأولى:
حكى لي الرجل الطاعن في السن عن محطة مهجورة، كان الناس يمرون بها دون أن يلاحظوا قيمتها. الواقع صريح دائماً أنت من تختار تجاهله أو مواجهته. من يواجه الحقيقة كما هي، يكتسب فهماً أعمق للحياة .. ويصنع قراراته من مكان متين، لا من وهم.” وهو يتحدث كأنني أستمع لدروس عمر كاملة في دقائق قليلة.
المحطة الثانية:
قال الرجل وهو يحدق في الظلام:
«الحياة لا تخفي حقيقتها، لكنها تختبر شجاعتك. من يهرب من الواقع يعيش وهماً مؤقتاً، ومن يواجهه يتألم مرة… لكنه يفهم للأبد.».”
المحطة الثالثة:
قلب صفحة من كتابه وقال:”الزمن أصدق معلم. استمع إليه قبل أن يمرّ، فهو لا يسرق منك إلا ما لم تنتبه له، ويعطيك فرصاً لمن يعي قيمة اللحظة.”
يا بني الزمن أصدق من البشر، لا يجامل ولا ينتقم. يمرّ على الجميع، لكن أثره يختلف. ما يعاش بوعي يبقى، وما يُترك للشرود يُمحى. العمر لا يقاس بالسنوات، بل بعدد اللحظات التي كنت فيها حاضرا حقاً.
المحطة الرابعة:
مررنا بمحطة أخرى، غارقة في الظلام والدخان. “هنا تعلمت قيمة الفقد…” همس، “من يفقد شيئاً يعرف حقيقته أكثر، ومن يقدّر الأشياء قبل رحيلها، لا يضيعها أبداً.” نظرت حولي إلى العربات الصدئة، وكنت أشعر بثقل الدروس، وكأن كل قطعة حديد تحمل حكاية حياة. “من يفقد… يعرف. ومن يقدّر قبل أن يخسر… لا يضيع ما يملك.”
ثم قال: من يعرف الفقد يعرف الحياة. لا تهرب من خسارتك، احتضنها، فهي معلمك الأصدق، وتعلم منها أكثر مما تعلمته أي نصيحة أو درس.”
في المحطة الخامسة
“التجربة… لا تُشترى ولا تُهمل. كل خطأ، كل نجاح، كل لقاء، يضع حجراً في بناء شخصيتك. المعرفة الحقيقية تأتي من المرور بكل هذه المحطات وملاحظة التفاصيل.” كان يلوّح بيده تجاه خطوط السكك والضباب، وكأن كل شيء حولنا يروي قصة التعلم.
المحطة السادسة:
“الكلمة مثل السهم، لا يمكن استعادتها بعد إطلاقها. استمع قبل أن تتحدث، وفكر قبل أن تتكلم. الصمت ليس ضعفاً . بل قوة تدفع الآخرين للاستماع إليك فعلاً.”
حين توقف القطار عند آخر محطة، التفت إلى مقعد الشيخ، فوجدته خالياً. ترك على المقعد كتابة وصفحة مطوية كتب فيها: “المحطات التي نجونا منها… هي التي صنعتنا.”
وعندما توقف القطار، نزلت وأخذت الرسالة التي كتبتها، ووضعتها في” صندوق البريد :القريب.
فجأة ظهر الشيخ مرة أخرى وقال: “لا تضع رسالتك في الصناديق القريبة… !!؟
عادة الصناديق القريبة ماتفتح رسائلها . ضعها في الصناديق البعيدة… فصناديق البعيدة تفتح رسائلها .” !!
فهمت وش كان يقصدة الشيخ ورديت عليه بيقين وثبات :
القريب قدرٌ لا ينسحب . يحملك حين تتخلّى عنك قوّتك، ويبقى لأنّ الرحيل خيانةٌ لا يعرفها. أمّا البعيد، فحكمةٌ مؤقّتة، يرى سقوطك بوضوح ويختار ألّا يقترب. القريب ثباتٌ صادق، والبعيد نجاةٌ باردة.
القريب ليس الذي يراك… بل الذي لا يتركك. هو الحضور الذي لا ينسحب، والثبات حين ينهار كل شيء،
هو الجزء الذي إن ضعف العالم، قوّاك دون أن يتكلّملذالك سوف أضع رسالتي في الصندوق القريب عن قناعة وأيمان .ابتسم الرجل الطاعن بسن وهز راسه واستدار واختفى في وسط الضباب .
أدركت حينها أن الرحلة لم تكن لسان يروي… وان الشيخ حكمة متحركة وأن القطار الذي ظننته وسيلة سفر لم يكن سوى كتاب، كل نافذة فيه فصل، وكل عجلة تدور فيه درس، وكل توقف… حياة كاملة تُعاد كتابتها.
نزلت ولست كما صعدت .عرفت أن الحكمة ليست في نهاية الطريق .. بل في كل خطوة مشيتها، وفي كل محطة وقفت فيها دون أن أدرك أنها تعيد الترتيب.
رحلة تعلمك أن الأماكن الميتة تخبّئ دروساً حيّة، وأن الصبر ليس صمتاً… بل رفعة ينير طريقك ويعلمك .
هكذا، أعود إلى هذه “العربات المهجورة” أحمل صمتها على أكتافي، وأكتب… لأن الكتابة لم تكن يوماً هروباً، بل أقسى وأصدق مواجهة للظروف حين تشتد .