كتاب واصل

الستر اللطيف

العافية سرٌّ لا يُرى، لكنها تمنح كل لحظة وزنًا ومعنى

بقلم/ راضي غربي العنزي – كاتب سعودي

كم من مرة جرى الإنسان خلف وهم النجاح، ولم يلاحظ أنه يخسر أعظم ما يملك؟ العافية… تلك النعمة الخفية، التي يسوقها الله بصمت، هي أثمن ما نملك. ليست جسدًا يسير على قدمين فحسب، بل قلبًا مطمئنًا، وعقلًا متزنًا، وروحًا تعرف السكينة.

الله، بقدرته ولطفه، يمنحنا نعمه بلا ضجيج، يملأ رئتينا بنَفَس هادئ، ويزرع الطمأنينة في أعماقنا. العافية ليست صراعًا ولا غلبة، بل توازن، القلب الذي لا يضطرب مهما اضطرب العالم من حولنا.

قال الله تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾، ولعل أول هذه النعم وآخرها العافية، الستر اللطيف الذي يغمر الجسد والعقل والنفس، فلا يراه إلا من تأمله.

يعيش كثيرون في وهم الامتلاك، يجمعون المال ويكدّون ليثبتوا ذواتهم أمام من لا يراهم أصلًا. نلهث خلف المستقبل ونغفل اللحظة التي نحن فيها. وما نحياه الآن هو منحة إلهية نادرة اسمها العافية، لكنها تمر دون أن نلاحظها.

تتأمل وجوه الناس، يضحكون، لكنها ابتسامات مؤقتة. أعينهم تحكي تعبًا قديمًا، كأن كل ضحكة استراحة جندي قبل معركة جديدة. يكتبون “الحمد لله” على صفحاتهم، ثم يمضون في المقارنات، وكأن الشكر صار زخرفًا بلا شعور عميق.

قال أرسطو إن الاعتدال هو جوهر الفضيلة، ولولا لطف الله لكان الناس بين الإفراط في الطموح والتوهان في الحزن. كل شيء أصبح زائدًا، حتى القلق صار ترفًا اجتماعيًا. الله وحده يعيد الميزان، ويهبنا عافية نغفل عنها وسط التفاصيل.

حين يرفع الله ستر العافية، يدرك الإنسان كم كان غنيًا بلا أن يشعر. أول وخز في الجسد أو اضطراب في الروح يكشف المعنى الحقيقي للرحمة: ليس فقط الشفاء، بل القدرة على الشكر، والاتزان الصامت، والطمأنينة العميقة.

العافية أن يمنحك الله قلبًا بلا حقد، عقلًا لا يضيع في التافه، ونومًا بلا خوف من الغد. رضا يسبق النتيجة، وإيمان بأن ما فاتك لم يكن لك، وما أبطأ عنك جاء في وقته.

في دعاء النبي ﷺ: “اللهم عافني في بدني، وعافني في سمعي، وعافني في بصري”، تختصر فلسفة الوجود كله. فالإنسان بلا عافية ككتاب جميل تمزقت صفحاته، يملك العنوان ولا يملك الحكاية.

العافية ليست غياب الألم، بل حضور الله في كل تفصيل من تفاصيل حياتك. أن تشعر أنه معك في حركة يدك، في عمق أنفاسك، وفي اللحظة التي تتجاوز فيها حزنك دون أن تدري كيف.

كل ما ظننته مجدًا سيتلاشى، وكل ما توهّمت أنه خسارة يتكشف أنه رحمة. الله وحده يبدّل الموازين، يرفعك حين تنكسر، ويهديك إلى سكون لا تصنعه الظروف بل تصنعه رحمته سبحانه .

وحين تهدأ الأصوات وتخفت الصراعات، ستدرك أن السعادة ليست الانتصار على أحد، بل البقاء سليم القلب، مستور الجسد، مطمئن الروح. حينها فقط ستعلم أن العافية لم تكن فصلًا من فصول الحياة، بل الحياة نفسها، وأن الله وحده هو الثقل والمعنى، وكل ما سواه خفيف كحلم عابر، ثم تلاشى.

● يارب ….

اللهم امنح روحي عافيةً خفية، وسرًا لطيفًا يخفف عني صخب العالم. .. أمنوا .

*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 497438

_____________________________________________

Radi1444@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى