
✍️ فهدالرياحي
الشجاعة ليست مجرد كلمة تتردد، ولا شعوراً عابراً يزول مع أول عاصفة. إنها مبدأ ثابت لا ينكسر، وقيمة لا تعرف الضعف أو الاستضعاف، حتى في أصعب الظروف. الشجاعة مبدأ الأبطال، الذين يظلون شامخين، متمسكين بمبادئهم، متعففين عن الخضوع للضغوط، مؤكدين أن الشجاعة ليست نزوة، بل قيم وقيمة تتجسد في العقل والصدق، والحق، والثبات، والكرم الذاتي.
وتتجلّى الشجاعة في التقوى والاستقامة على طريق الخير، وفي التسامح وصفح عن الزلات دون أن تثقل القلب بالضغائن. هي قدرة على التحمل، وسمو وبعد النظر، وعدم التفات إلى صغائر الأمور، مع التطلع الدائم إلى المعاني السامية والغايات العظيمة .
وفي تفاصيل حياتنا اليومية، تظهر الشجاعة في المواقف الصغيرة قبل الكبيرة: كلمة صادقة، وصبر حكيم، ونصح مخلص، وموقف شجاع في مواجهة الظلم، أو رفض الانصياع لأي خطأ يخالف القيم. فكل فعل شجاع يعكس جوهر هذه القيمة، ويجعل صاحبه إنساناً محترماً ومؤثراً، يقدر لقوة مبادئه وعلو كرامته.
ومن يثبت على هذا النهج، يبرهن أن الشجاعة مبدأ وقيمة، وأن الإنسان قادر على أن يكون رمزاً للقوة والحق. ففي أكثر لحظات الحياة اختباراً، حين يكون الحق في يدك، والقوة حاضرة، والقدرة على الرد متاحة، يبدأ الامتحان الحقيقي للإنسان. عندها يظهر الفرق بين الشجاعة والتهوّر؛ فليس كل من استطاع أن يؤذي أو ينتقم شجاعاً، كما أن الصمت ليس دائمًا علامة ضعف.
بل قد يكون الصمت، في بعض المواقف، قراراً شجاعاً، لأن صاحبه يرى ما لا يراه الغاضبون، ويزن العواقب بميزان البصيرة لا باندفاع اللحظة. فالشجاعة وعي وثقة، وعقل يزن الأمور، ويقدّر النتائج، ويدرك أن الغضب الأعمى كثيراً ما تكون عواقبه وخيمة وخسائره فادحة.
الشجاعة مبدأ وثبات؛ أن تبقى وفيّاً لقيمك، وأن تختار طريق الخير لأنك تعلم أنه الطريق الصحيح الذي يرضي الله، لا لأن الشر غير متاح، بل لأن الشر أسهل في لحظات الانفعال، وأقصر طريق إلى خسارة النفس.
ولهذا، كثيراً ما نرى من يربح معركة ويخسر نفسه، بينما يخسر آخر جولة لكنه يكسب احترامه لذاته. وهنا تتجلى إحدى أرقى صور الشجاعة وأثقلها وزناً : الصفح. فالصفح لا يأتي من ضعف، ولا يعني التنازل عن الحق، بل هو سمو أخلاقي لا يبلغه إلا أصحاب النفوس الكبيرة.
فالذي يعفو وهو قادر، ويتجاوز وهو يعلم حجم الإساءة، إنما ينتصر على نفسه قبل أن ينتصر على غيره، ويحرر قلبه من ثقل الضغينة. الشجاع لا يحمل الضغينة، لأن قلبه مشغول بما هو أكبر. وتلك هي الشجاعة في أنقى صورها : عقل، وموقف، وخلق.
الشجاعة ليست مجرد صفة، بل فضيلة أساسية ترتقي بالإنسان وتجعله قادراً على مواجهة تحديات الحياة. وهي من الفضائل الأربع الأساسية: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة. وهي قوة للذات، تؤكد وجود الإنسان، وتمنحه القدرة على الصمود والثبات، وبها يتخذ قراراته الصحيحة ويحقق أهدافه دون خوف أو تردد.
وباختصار، الشجاعة هي العمود الفقري للإنسانية؛ بها يُصان الحق، ويُحقق الهدف، ويُرفع شأن الإنسان عند الله وبين الناس.
الشجاعة نوعان متكاملان:
شجاعة الموقف، حين يثبت الإنسان على الحق ولا يساوم عليه، وشجاعة الفعل، حين يتحرك دفاعاً عن القيم والكرامة.
ولا قيام لفرد أو مجتمع دون هذا التكامل، فلا موقف بلا فعل، ولا فعل بلا مبدأ.
وقد أرشد القرآن الكريم إلى الثبات وعدم الوهن، فقال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].
وتذكّر هذه الآية أن الألم في طريق الحق مشترك، لكن الفارق أن أهل الحق يرجون من الله ما لا يرجوه غيرهم، فيصبرون ويثبتون، ويجعلون من الشجاعة خُلقاً راسخاً وموقفاً لا يتزعزع.
قال النبي ﷺ:
«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير» (رواه مسلم).
وهذا الحديث يبيّن أن القوة ليست قوة الجسد وحدها، بل قوة الإيمان، والأخلاق، والنبل، والثبات على الحق، وهي جوهر الشجاعة ومعناها الأسمى.
وفي الختام، عندما يقف كل منا بشجاعة في سبيل الحق، ترتقي القيم، وتستمر الرسالة، ويعلو الإنسان بموقفه قبل صوته. فلتكن شجاعتنا مثالاً حياً، لا تنحني، ولا تساوم، وتظل دائماً مبدأً سامياً يرفعنا ويعلو بنا، ويجعلنا دائماً على الحق.



