كتاب واصل

كلهم كانوا قساة….!!!

"حين يتقدّم لطف الله خطوةً واحدة، تتراجع القسوة ألف خطوة، ويبقى القلب واقفًا في صف الرحمة."

بقلم: راضي غربي العنزي-“كاتب سعودي”

المحب حنون.
والحنية ليست رفاهية الصفاء، ولا زينة اللحظات الجميلة، بل امتحان القلوب حين تضيق، وحين يغضب الإنسان ولا يسمح للغضب أن يقوده، وحين يحزن ولا يترك الحزن والكدر يهدم ما بُني بالثقة. الحنون هو ذاك الذي تطمئن إليه حتى وهو متألم، لأنك تعرف أن في داخله ميزانًا أدق من المزاج، وأن رحمته تسبق ردّ فعله.

في هذا العالم الخشن، يُساء فهم الحنية. تُتّهم بالضعف، وتُخلط بالهشاشة، بينما هي في حقيقتها أعلى درجات القوة. القسوة ردّة فعل سهلة، أما الحنية فهي قرار. قرار أن تكون إنسانًا كاملًا، لا نصف قلب ولا نصف وعي. قرار أن تتذكّر أن الله، جل جلاله، لم يجعل الرحمة استثناء، بل جعلها أصلًا، وسمّى نفسه الرحمن الرحيم، لتكون الرحمة هي القاعدة لا الهامش.

﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾
آية لا تُقرأ لتُزيّن الخطب، بل لتُهذّب السلوك.
وقال النبي ﷺ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ»، فجعل الرحمة طريقًا، لا فكرة، وسلوكًا لا شعارًا.
الحنية في الغضب هي ذروة النضج.
أن تعاتب دون أن تُهين،
أن تختلف دون أن تُقصي،
أن تتألم دون أن تتحول إلى نسخة قاسية من نفسك.
هنا فقط يظهر الإنسان الذي فهم نفسه، وفهم ربه، فوحد الله في فعله قبل قوله، وقدّسه حين جعل الرحمة ميزان الحكم.
قال أرسطو إن الفضيلة هي ذلك التوازن النادر بين الإفراط والتفريط، والحنية هي هذا التوازن

حين تشتعل المشاعر. ورأى سينيكا الروماني الحكيم أن الغضب إذا لم يُحاصر بالحكمة، انقلب على صاحبه، وأن أعظم انتصار هو أن تنتصر على نفسك في لحظة قدرتك على القسوة. أما جلال الدين الرومي فكان يرى أن القلب الذي يتّسع للألم ويتّسع للعفو، هو القلب الذي اقترب من الحقيقة دون صخب.
وفي الحياة اليومية، تتجلى الحنية في أبسط التفاصيل.
في أبٍ يغضب ولا يكسر.
في أمٍّ تعاتب ولا تُحبط.

في قائدٍ يرى الخطأ فرصة للفهم لا مناسبة للانتقام.
قصة حديثة لرجل يملك متجرًا صغيرًا. أخطأ أحد العاملين خطأً كاد أن يُغلق المكان يومًا كاملًا. توقّع الجميع عاصفة غضب. صمت الرجل، ثم قال: نتعلّم اليوم حتى لا نخسر غدًا. لم يخصم، ولم يُهِن، ولم يستعرض سلطته. بعد أشهر ، صار ذلك العامل أكثرهم إخلاصًا وحرصًا. الحنية هنا لم تكن عاطفة، بل حكمة عملية، وفهمًا لطبيعة البشر كما خلقهم الله، يخطئون ليتعلموا، ويسقطون ليقوموا.

الحنية ليست أن تُلغي الألم، بل أن تمنحه معنى.
ليست أن تُنكر الخطأ، بل أن تُصلحه دون تشفٍ.
هي أن يكون قلبك مطمئنًا لأن الله حاضر في داخلك، وأن حكمته تقود فعلك، فتحفظ الإنسان فيك حتى وأنت غاضب.
قال دوستويفسكي إن الإنسان يُقاس بقدرته على الرحمة أكثر مما يُقاس بقدرته على السيطرة. وهذه ليست عبارة أدبية، بل حقيقة عارية. فالسيطرة تخلق خوفًا مؤقتًا، أما الحنية فتصنع ولاءً طويل الأمد.

نحن لا نحتاج مزيدًا من القسوة المتقنة، بل نحتاج قلوبًا تعرف متى تتوقف. نحتاج شجاعة الرحمة، لا صخب الغضب. نحتاج أن نُعيد الاعتبار لقوة الصمت، ولحكمة التريّث، ولإنسانية القرار.
وفي الختام،
الحنية ليست ضعفًا يُخجل،
ولا ترفًا يُؤجَّل،
بل هي موقف أخلاقي، وإيمان عملي، وبرهان صامت على قلب اختار الله طريقًا، والرحمة لغة، والعدل ميزانًا.
من امتلك الحنية، امتلك الأرض دون أن يرفع صوته،
ومن جعل الرحمة سلاحه، انتصر دون أن يجرح أحدًا.

● ابتسم الآن ….فأنا أكتب لأجلك ….ولتضئ..!

*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 479438
■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■
Radi1444@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى