إدارة المنح في المؤسسات الوقفية بين تعزيز الأثر وضمان الاستدامة

تمثل المؤسسات الوقفية إرثاً تنموياً فريداً يجسّد حكمة الأسلاف في تحويل العطاء الخيري إلى استثمار دائم. وفي عصر تزايد الاحتياجات المجتمعية والتعقيدات المالية، تواجه إدارة المنح الوقفية تحدياً مركزياً: كيف توازن بين تعظيم الأثر المجتمعي المباشر وضمان الاستدامة المالية الطويلة الأجل؟
جوهر هذا التحدي يكمن في أن المنح الوقفية ليست موارد استهلاكية تنتهي عند صرفها، بل هي أصول توليدية يجب أن تحافظ على قيمتها وتنميتها مع ضمان تدفق عوائدها الدائمة نحو المستفيدين. فالوقف الناجح هو الذي يحقق معادلة صعبة: الإنفاق الكافي لتحقيق أثر مجتمعي ملموس، والادخار الكافي لضمان استمرارية هذا الأثر عبر الأجيال.
تتطلب هذه المعادلة إدارة مالية رشيدة ترفض المقارنات السريعة مع المؤسسات الخيرية التقليدية. فالوقف ليس جمعية خيرية تعمل على صرف التبرعات السنوية، بل هو كيان استثماري يوزع جزءاً من عوائده مع إعادة استثمار الجزء الآخر للحفاظ على رأس المال ومواكبة التضخم والنمو السكاني.
في الجانب الآخر، لا تعني استدامة الوقف تحوّله إلى صندوق استثماري صرف يهتم بالعوائد المالية فقط. فالمؤسسات الوقفية تحمل رسالة مجتمعية وروحية تتطلب أن تظهر آثارها في الواقع المعيش للناس. لذا، تبرز أهمية تطوير أدوات قياس الأثر التي تتجاوز الأرقام إلى تقييم التغيير الحقيقي في حياة المستفيدين، وكيفية تحويل المساعدات إلى قوة دافعة للتنمية الذاتية.
الابتكار في آليات المنح يمثل حلاً مهماً لهذه المعادلة. فبدلاً من المنح النقدية المباشرة التي قد تنتهي أثارها سريعاً، يمكن للوقف تمويل منح تعليمية مقترنة بتدريب عملي، أو منح بحثية تطور حلولاً لمشكلات مجتمعية، أو منح ريادية تساعد المستفيدين على إنشاء مصادر دخل مستدامة. بهذا يصبح الوقف محفزاً للتنمية وليس مسكناً مؤقتاً للحاجة.
كما أن الشفافية في الإدارة والإفصاح عن الأداء المالي والمجتمعي أصبحت ضرورة لا رفاهية. فثقة الواقفين والمجتمع تعتمد على وضوح الرؤية ودقة التنفيذ وقدرة المؤسسة على إثبات أنها تحقق التوازن المنشود بين العطاء اليومي والادخار المستقبلي.
الوقف الناجح هو الذي يستطيع أن يقول بعد مائة عام: لقد حافظنا على رأس المال الذي استلمناه بل وزدناه، وخلال هذه السنوات غيرنا حياة آلاف الأسر وشاركنا في بناء المجتمع، وما زلنا نملك الطاقة للاستمرار قرناً آخر. هذا هو التحدي الحقيقي لإدارة المنح الوقفية في عصرنا: أن نكون أمناء على ماضي عظيم، وفاعلين في حاضر منتج، ومخططين لمستقبل دائم.
الكاتبة عفاف عبدالرحيم الزهراني
ماجستير الإدارة التنفيذية في الأوقاف والمنظمات الغير ربحية
جامعة الباحة



