مساحة حرة

الشيخ صقر بن زايد الروقي ذاكرةُ قرنٍ كامل ورجلُ فضلٍ لا يُنسى

✍️ عبدالرحمن الروقي

الحمدُ لله الذي أجْرى الأقدار بحكمته، وقدَّر الآجال برحمته، وجعل لكلِّ شيءٍ أجلًا، ولكلِّ أمرٍ كتابًا؛ فلا سلامةَ تدوم، ولا حياةَ تبقى، ولا ظلٌّ يطول امتداده. والصلاةُ والسلام على خير البريِّة وسيِّد البررة، محمد بن عبدالله، القائل: «كفى بالموت واعظًا».
أما بعد:
فإنَّ الدنيا بحرٌ تتلاطم أمواجه، وتهدأ سكوناته، تُقبل أيامُه كما تُدبر، وتضحك لياليه كما تبكي، وما يثبت فيه إلا ذكر الله، وعملٌ صالحٌ تثمر آثاره ولو بعد امتداد الأعمار. يعيش الناس فيها أطوارًا ويرحلون أطوارًا، ويظل العاقلُ من اغتنم العبرة قبل أن يكون هو العبرة.
وفي هذا العالم الذي لا يثبت على حالٍ، جاء اليوم الذي كُتبت حروفه بالأسى؛ يوم انطوت فيه صفحة رجلٍ لم يكن عابرًا في تاريخ قومه، بل كان عَلَمًا من أعلامهم، ووتدًا من أوتاد قبيلتهم، واسماً إذا ذُكر ازدانت حوله مآثر الرجال.
اختَرَم المنونُ ــ بقدر الله الأزلي ــ حياة الشيخ الوقور الراوية النسّابة؛ صقر بن زايد بن سعيد بن ثعلي الروقي، فغاب الجسد، وبقي الأثر، وودعت المحاني رجلًا كانت خطاه على ترابها كنقوشٍ من نور، تشهد بها الطرقات، ويحفظها الحجر والمدر.
فارق – رحمه الله – الدنيا صباح الأربعاء 21 / 5 / 1447هـ في مدينة الطائف، فاهتزت القلوب لسقوط ركنٍ من أركان التاريخ، وانطفأ مصباح من مصابيح المروءة، وووريت تحت الثرى حياةٌ عاشها بعزمٍ ومضاء. صُلِّي عليه في المسجد الحرام؛ في بقعةٍ ما صُلِّي فيها على الرجال إلا وعلا ذكرهم، ثم حُمل إلى مقبرة الشهداء؛ فكان ختامًا يليق بسيرةٍ لم تُدنَّس بشيء من غبار الدنيا.
كان – رحمه الله – رجلًا إذا ذُكر اسمه تبعته أطيافُ المكرمات: صدرٌ رحب، ويدٌ بالخير فياضة، ولسانٌ لا يقول إلا جميلًا، وقلبٌ يميل إلى الضعفاء ميل الغيم إلى أرضٍ عطشى.
لم يكن كريمًا بوصف، بل بطبعٍ جرى في عروقه كما يجري الماء في ساقيةٍ خصيبة؛ يعطي قبل السؤال، ويمنح قبل الطلب، ويصلح ذات البين، وهو أقدر الناس على أن يقول: «لن أتدخل». وكان بيته — منذ أن شُيِّد — مهوى الوفود، ومجلسًا لأهل الرأي، وميناءً لأصحاب الحاجات؛ تدخل مجلسه فتبصر البشر قبل أن تسمع الكلمة، وتشتم طيب السيرة قبل أن تُقدَّم القهوة.
وعُرف بين الناس بلقبين قل أن يجتمعا في رجل:
صقر الفضل، وصقر الشهامة؛
فقد كان إذا نادى الخيرُ أجاب، وإذا رأى مظلومًا انحاز إليه، وإذا بلغه شأنٌ من شؤون الناس كان فاعلًا لا متفرِّجًا.
ولم تقف سيرته عند حدود بلده، بل امتدت إلى العلماء والأكابر؛ فقد كانت صلته بهم صلةَ معرفةٍ راسخة، وتقديرٍ متبادل، ومحبةٍ صادقة. عرفه الإمام محمد بن إبراهيم آل الشيخ – مفتي الديار السعودية الأسبق – معرفةَ الرجل الذي يميز مكارم الخصال إذا رآها، فأجله وأثنى على صفاء معدنه وثبات خُلقه. ثم قوي هذا الوصل مع سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – فكان الشيخ صقر يزوره ويلازم مجالسه إذا لاحت الفرصة، ويعد قربه بركةً لا تُقدر، ويبادله الإمام ابن باز محبةً خالصة وتوقيرًا ظاهرًا.
وامتد هذا الخيط المبارك حتى سماحة المفتي العام الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ – رحمه الله تعالى – الذي كان يعرف الشيخ صقر معرفةَ تقديرٍ ومودة، ويثني على رزانته وطيب سيرته، وما عُرف عنه من صدق المعاملة وكرم النفس. وكان الشيخ صقر – رحمه الله – لا يُفوت لقاء أحدٍ من العلماء إن قدم إلى الطائف؛ فيزورهم ويأنس بمجالسهم، ويرى في وصلهم قربةً تُحيي القلب، وفي حديثهم نورًا يملأ الوقت بركة.
وتوالت زيارات العلماء والأعيان إلى داره: معالي الشيخ عبد الله بن غديان – رحمه الله – ومعالي الشيخ عبد الله المطلق، ومعالي الشيخ محمد بن حسن آل الشيخ، وغيرهم من أهل العلم الذين لم يكونوا يزورون رجلًا عاديًا، بل يزورون ذاكرةً تمشي على الأرض؛ رجلًا يجمع بين صدق الخلق ونقاء السريرة، وسعة الرواية، وحكمة القول، حتى كان مجلسه مجلس علم وإن لم يُرفع فيه لواء التعليم، ومجلس إصلاح وإن لم تُعلَن فيه التسويات، ومجلس فضلٍ تُشم فيه رائحة المروءة قبل رائحة القهوة.
وقد ازداد مقامه مقامًا حين عرف العلماءُ ابنه البار، فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور فهد بن صقر الروقي – رحمه الله –، ذلك العالم الذي حمل عن أبيه جوهر الأدب، وامتد به نور العلم والفقه، فكان العلماء يرون فيه امتداد أبيه في الفضل والمروءة، وصورةً أخرى من صور البيت الطيب المبارك. وكثيرٌ منهم كان إذا ذكر الشيخ فهد قال:
«هو ابن الشيخ صقر… وصورته في العلم والأدب»
وكان الشيخ صقر – رحمه الله – يعتز بولده اعتزازًا ظاهرًا، يراه وجهه أمام الناس، وثمرته التي يلقى الله بها، وكان إذا سُئل عنه عبر بكلماتٍ تفيض فخرًا ومحبة، ويشهد فيها السامع مقدار المكانة التي يحتلها ابنه في قلبه.
وبعد رحيل الدكتور فهد – رحمه الله – كان الشيخ صقر إذا ذُكر له قال كلمته الصادقة التي خرجت من قلبٍ مكلوم:
«كان كالشمس… تضيء لتنفع»،
وكان يقولها وهو يعلم أن الشمس إذا غابت بقي أثر حرارتها في القلوب، كما بقي أثر ابنه في العلم والدعوة والقضاء؛ فكان يذكره ذكر الرجل الفخور بابنه، الملتاع لفقده، المستسلم لقضاء الله مع بقاء الجرح في القلب لا يندمل.
وبهذا اجتمع في هذا البيت علمُ الأب وفضلُ الابن، وتوارث الأبناء المجد كما تُورث الأرض الطيبة خضرتها، فكان العلماء يعرفون الاثنين، ويثنون على الاثنين، ويرون في كلٍّ منهما شاهدًا على صلاح الأصل وكرم الغرس.
وقد تولى – رحمه الله – رئاسة مكتب المساجد والدعوة والإرشاد بالمحاني مدةً قاربت ثلاثة عشر عامًا، وهو أول من تولى هذا المنصب في المركز، فقدم فيها جهودًا نافعة وأعمالًا جليلة يشهد بها القاصي والداني.
وفي باب صلة الرحم لم يكن يصل من وصله فحسب، بل يصل من قطعه، ولا تأتي مناسبة إلا وتراه حاضرًا، ولا عزاء ولا فرح إلا وتراه مشاركًا. ومع كبر سنه واشتداد مرضه كان يقول إذا بلغه عذر أحدٍ عن زيارته:
“اذهبوا بي إليه، فهو لا يستطيع المجيء”.
أما حلقات التحفيظ، فحديثها طويل: كان ينفق عليها من ماله الخاص، يشجع الحفِّاظ، ويضع الجوائز لكل من أتم حفظ جزء، ويغرس في النشء حب القرآن.
ولم يكن عجبًا أن يُشار إليه بأنه آخر خيطٍ يصل الحاضر بالماضي؛ فقد كان من الرواة الثقات والنسَّابين البارعين، يحفظ الأنساب والأخبار والقصص حفظًا عجيبًا، يقصها بدقة لا يختل معها سياق ولا تُنسى معها معلومة. وكان المؤرخون والنسابون يفدون إليه من بقاع الأرض، يتلقون عنه، ويقفون على ما في ذاكرته من كنوز.
ومن لطيف ما قيل له: إن معالي الشيخ ناصر الشثري – رحمه الله – قال له في أول لقاء:
«أأنت راوية الحجاز»؟
ولم يكن سؤالًا بقدر ما كان اعترافًا بمكانته.
وبغيابه انقطع صوت ذلك الماضي الذي كان يحمله في صدره، وتوارَت ذاكرةُ قرنٍ كاملٍ كانت تنبض بالحياة على لسانه؛ فانطوت صفحة، ورحلت حقبة، وغاب رجلٌ كان وحده شاهدًا على زمنٍ لم يبقَ من رواته إلا القليل.
وكان للشعر نصيبٌ من حياته؛ يسمع وينشد ويساجل، ومن شعره الذي ناجى به ربه:
الا يا الله طلبتك يا خياراً ما عليك خيار
يا من بامره ذكر مجد والوليد ابن المغيره
طلبتك جنت الفردوس واكتبنا مع الأبرار

وقال في موضع آخر يذكر خدمته:

يا سد يجزى اللي سعى فيك بالخير
يجزيه ربي من فسيح الجناني
… إلى أن قال:
خمسين عام أمضيتها بالمشاوير
وتقول ساعة في لزوم المحاني

وقد خلَّف – رحمه الله – ذرية مباركة نشأت على طيب الأصل وحسن المنشأ – نسأل الله لهم الزيادة –.
رحم الله الشيخ صقر بن زايد الروقي؛
فقد كان رجلًا تُكتب سيرته على صفحاتٍ لا يشوبها غبار، ويبقى ذكره في القلوب كما تبقى الريح الطيبة في الممرات مهما مرت عليها السنين.
هذا ما وسعه الوقت، وأذن به لوعة الفقد؛ ولولا إلحاح أهل الفضل في الكتابة لغلبني الحزن، غير أن الأمل بالله كبير في إعداد كتابٍ مستقل يليق بسيرة هذا الشيخ الوقور الكريم.
نسأل الله – وهو أرحم الراحمين – أن يجزيه بما قدَّم، ويجعل قبره روضةً من رياض الجنة، ويضيء له فيه، ويرفع درجته في عليين، ويخلُف أهله وقبيلته بخير، ويجعل ما قدَّمه صدقةً جاريةً تُؤنسه في لحده.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى