كتاب واصل

ولادة الحرية..!

وبعض الانسحاب حياة.

كل خطوة هنا فخ، وكل كلمة شدة… هذه ليست مجرد حياة، بل مشهد سينمائي مظلم لم يُكتب بعد ….!

✍️ راضي غربي العنزي – كاتب سعودي

في زمن أصبح فيه الصمت أكثر أمانًا من الكلام، تحولت بعض العلاقات إلى حقول نفسية للألغام، تمشي فيها على أطراف الحروف، تتنفس بحذر، وتبتسم بخوفٍ من أن تُساء نيتك. أصبحنا نخشى أن نكون طبيعيين، وكأن العفوية صارت تهمة لا تُغتفر.

كنتُ لِفتراتٍ طويلة أحضر بعض المجالس المحاطة بالفخامة والهيبة، لكن خلف ذلك البريق، كان هناك شعور خفيّ بالاختناق. كأن على رأسي ألف كاميرا تراقبني، وألف مسمار يثبتني في مكاني. كل حركة محسوبة، كل همسة مراقبة، وكل كلمة قابلة لأن تُؤخذ كسلاح ضدك.
حتى بدأت أشعر أنني لا أتنفس، وأنني أعيش في قالبٍ لا يشبهني. أصابني ذلك الجو بأمراضٍ لا تُرى، لكنها تنهش أعماقك ببطء: مرض الحذر، مرض التوجس، مرض كبت النفس.

كنتُ أبتسم بينما قلبي يتصبّب توترًا، وأتحدث بينما روحي تبحث عن مخرج للطبيعة التي خُنقت داخلي.
ثم أدركت الحقيقة البسيطة: أن البقاء في مكان يحاصرك هو موت مؤجل.

فابتعدت… لا هروبًا، بل بحثًا عن حياة طبيعية لا تحتاج إلى إذن كي أكون نفسي.

فتحتُ نافذة للشمس بعد اختناق طويل، تنفست هواءً لم يمر عبر فلاتر الناس، وغادرتُ كل تلك المجالس الثقيلة التي كانت تستهلكني دون أن أشعر.
نجوت، ولن أعود إليها أبدًا، بإذن الله.

قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ» [الحجرات: 12].

وروى النبي ﷺ: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث».

لكننا نعيش في زمن يرى فيه الناس النية قبل الفعل، والظن قبل الحقيقة.

العلاقات التي تجعلك تمشي فوق الكلمات كأنها ألغام، ليست علاقات بشرية، بل اختبارات صبر مؤلمة.

أجمل العلاقات هي التي تُشعرك بالأمان لا بالترقّب، التي تتركك تتنفس دون خوف من أن تُساء قراءتك.

ويُقال في المثل: “إذا كثر الحذر ضاعت الطمأنينة”، وأنا أقول: إذا فقدت العلاقة طمأنينتها، فلا معنى لبقائها.

أحيانًا، أفضل بطولة هي أن تغادر المشهد قبل أن يُصفّقوا لسقوطك.

ليس كل بقاء بطولة، ولا كل انسحاب ضعفًا.

بعض الرحيل شجاعة، وبعض الصمت صرخة، وبعض الانسحاب حياة.

وها أنا أكتب هذا المقال لا لأشكو، بل لأحتفل بالنجاة.

أكتب بعدما فتحت نافذتي الأولى على الشمس، بعدما خرجت من قاعة فخمة لكن خانقة، من مقعد ذهبي لكنه بارد، من عالم مليء بالتصنّع حتى العطاس فيه يحتاج إذنًا!

فليقف العالم لا احترامًا لبطولتي، بل للجنون الجميل الذي جعلني أختار نفسي على الجميع.

وليعلم من يقرأني أنني لم أهرب، بل عدت إلى الحياة… بعد أن كنت مجرد ضيف ثقيل على نفسي.

في النهاية، تذكّر دائمًا:
من يعيش تحت أعين الآخرين يموت ببطء أمام نفسه…

أما من يختار الضوء، فكل خروجه ولادة جديدة.

*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 497438
_____________________________________________
Radi1444@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى