د.خالد علي الغامدي اخصائي نفسي وخبير تربوي
كنا زمان نعيش أيامًا دافئة مليئة بالبساطة. الأخ يدخل على أخيه بلا استئذان، والصديق يقتنص أي لحظة ليلتقي برفيق عمره، والعائلة كلها تجتمع في بيت الجد كأنها صلاة لا تسقط. الجيران كانوا مثل الإخوة، يشاركون الفرح والحزن، ويفتحون بيوتهم وقلوبهم بلا حساب.
لكن ما أسرع ما تغيّر الزمان. فجأة صار اللقاء يحتاج موعدًا مسبقًا، والزيارة تتحوّل إلى واجب رسمي، والقلوب مشغولة بالهموم والمشاغل. الأخ يعتذر بحجة العمل والأولاد، الصديق يغيب ويكتفي بوعد مؤجل، والعائلة لم تعد تلتقي إلا في المناسبات. حتى الأصدقاء القدامى صاروا مجرد صور على الشاشات، نتابع أخبارهم من بعيد، ونستبدل السؤال الصادق بزر “إعجاب”.
قد يظن البعض أن السبب هو ضيق الوقت وكثرة المسؤوليات، وأن الحياة تسارعت علينا. لكن الحقيقة أن الزمن ثابت منذ خُلق، والشمس هي الشمس والقمر هو القمر، ما تغيّر شيء. الذي تغيّر هو النفوس. النفوس التي كانت تحرص على الود والقرب، صارت تميل إلى الانشغال بالمظاهر والمصالح. البعض إذا اغتنى انعزل وتكبّر، والبعض صار يقيس علاقاته بما ينفعه، والبساطة التي كانت تجمعنا ذابت أمام حب الظهور والتفاخر.
ومع ذلك، لا ينبغي أن نستسلم لهذا الواقع. فاللمة الحقيقية لا تحتاج تكاليف ولا مظاهر. أحيانًا جلسة شاي في استراحة تكفي، أو فنجان قهوة في بيت أحد الأصدقاء يعيد الروح. يكفي أن يمد الواحد يده بخطوة صغيرة ليذيب جليد الغياب.
الحياة قصيرة، والعمر يمضي بسرعة لا نشعر بها إلا عندما نفقد من نحب. كم من أخ أو صديق تمنينا لو جلسنا معه أكثر، أو اتصلنا عليه قبل أن يرحل؟ لكن الندم بعد الفقد لا يعيد الماضي. لذلك، من الحكمة أن نغتنم الحاضر، ونعطيه لمن يستحقه قبل أن يفوت الأوان.
السعادة الحقيقية ليست في السفر أو المظاهر أو الصور التي نعرضها للناس. السعادة تكمن في اللحظات البسيطة: ضحكة صافية مع صديق قديم، كلمة طيبة من قريب، زيارة مفاجئة تملأ القلب دفئًا. هذه اللحظات الصغيرة هي التي تبقى في الذاكرة وتُحفر في القلب.
فلنقف مع أنفسنا قليلًا، ونراجع أسلوب حياتنا. بدل أن نترك الأيام تسرقنا، لنحدد وقتًا ثابتًا يجمعنا، ولو مرة كل شهر. بدل أن نؤجل الزيارة بحجة الانشغال، لنبدأ بخطوة بسيطة: رسالة قصيرة، اتصال سريع، أو لقاء عابر. المهم أن لا ينقطع الحبل، وأن يبقى الجسر ممدودًا.
العودة إلى الود ليست حلمًا بعيدًا، بل هي قرار يبدأ منّا. إذا مددت يدك ستجد من يبادلك، وإذا دعوت ستجد من يرحب، وإذا ابتسمت ستجد من يبتسم لك.
فلنبدأ من اليوم. نعيد الدفء لعلاقاتنا، ونحيي ما اندثر من عاداتنا الجميلة. لأن أجمل ما في هذه الحياة، بعد الإيمان، هو القلوب التي نحبها وتحبنا.