كتاب واصل

وسيجبُرَك الله

د.خالد علي الغامدي اخصائي نفسي وخبير تربوي

في زحام الحياة، لا أحد ينتبه للذين يتألمون بصمت. الكلّ مشغول، الكلّ يبتسم، الكلّ يمشي وكأن لا شيء يحدث… لكن خلف الوجوه الهادئة، قلوبٌ تتصدع، وأرواحٌ تتعب، وأكتافٌ تحمل ما لا يُقال.

نحن نتقن التمثيل، نُتقنه لدرجة أننا نكاد ننسى أننا لسنا بخير. نردّ السلام بابتسامة، نضحك حين يُفترض أن نضحك، لكن داخلنا… عاصفة لا تهدأ.

الحزن حين يسكن القلب، لا يعلن قدومه. يأتي على هيئة صمت طويل، على هيئة نظرات تائهة، على هيئة صباحٍ تستيقظ فيه وكأنك لم تنم، وكأنك استيقظت لتواصل معركة لم تنتهِ بعد.

نحن لا ننهار دفعة واحدة، بل نتشقق من الداخل ببطء، حتى نظن أن هذا الثقل الذي نشعر به أصبح طبيعيًا. حتى يصبح الجرح عادة، والدمعة رفيقة، والتنهيدة لغة لا نحتاج لترجمتها.

في داخل كلٍّ منا معركة… جراح قديمة لم تُغلق، كلمات لم تُقال، خيبات مررنا بها وأجبرنا أنفسنا على تجاهلها. نخبّئها، نتظاهر أنها لا تؤثر، لكنها تكبر، تُصيبنا بالإرهاق، تجعلنا ننهض بصعوبة، نعيش بلا طاقة، نحبّ بلا حماس، ونعطي أقل مما نستطيع.

ثم يأتيك ذاك الصوت… ذاك الصوت الذي يهمس لك وأنت في لحظة ضعف: “لن تنجح… لن يفهمك أحد… أنت وحدك”. إنه الشيطان، يعرف تمامًا متى يدخل، يعرف أين الألم، فيضغط عليه. يعرف أي باب فيك يُفتح بسهولة، فيطرقه مرارًا حتى تُصغي، ثم يزرع فيك فكرة الانكسار، ويجعلك تصدّق أنك انتهيت.

لكن الحقيقة ليست كذلك…

الحقيقة أن ما تمر به ليس ضعفًا، بل إنسانية.

الحقيقة أن قلبك المتعب لا يعني أنك فاشل، بل يعني أنك حملت كثيرًا وسكتّ كثيرًا، وحان وقت أن تتكلم.

لا بأس أن تعترف أنك موجوع، لا بأس أن تبكي، أن تكتب، أن تصرخ، أن تنسحب قليلاً، أن تبحث عنك وسط هذا الزحام.

وإن سألتني: “ما الحل؟”

فأقول لك: ابدأ بالصدق.

كن صادقًا مع نفسك، مع ألمك، مع ما مررت به.

واجه حزنك ولا تهرب. لا تكدّسه داخلك حتى ينفجر في وجهك لاحقًا.

تحدث مع من تحب، أو حتى تحدث مع نفسك، لكن لا تصمت عنك.

ثم تذكّر أنك لست ضحية ما حدث، بل بطل نجا من كل ذلك وما زال واقفًا.

امنح نفسك فرصة لتتغير، لتتخلّص من أثقالك، لتعيد ترتيبك من الداخل.

واقترب من الله…

اقترب منه كأنك تغرق، وكأنّ لا شيء ينقذك سواه.

اخبره بكل شيء، دون تنسيق، دون ترتيب، فقط قل: “يا رب، قلبي لا يحتمل، فاحمله عني”.

وفي لحظة صدق واحدة، قد تشعر أنك خفيف كما لم تكن من قبل، كأنك أعدت تنفّسك بعد اختناق طويل.

وربما لن تتحسن الأمور بسرعة، لكنك ستتحسن أنت.

ستعود لترى الأشياء من زاوية مختلفة.

ستضحك، لا لأنك لا تتألم، بل لأنك أصبحت تعرف كيف تتعامل مع الألم.

لا تبحث عن الضوء بعيدًا…

فأحيانًا، النور الحقيقي ينبع من قلبٍ مرّ بالعتمة، وعرف كيف يعود.

لا تقل: “انتهيت”، قل: “أنا أبدأ من هنا”.

ولا تنظر إلى ما كُسر فيك على أنه نهاية… بل انظر إليه كإعادة تشكيل.

الحياة لا تُكافئ من لا يسقط، بل تُكرّم من يسقط ثم ينهض رغم كل شيء.

وفي لحظةٍ ما…

حين لا تتوقع شيئًا، سيأتيك الفرج كأنه كان يعرف عنوان قلبك طوال الوقت.

سيأتيك الجبر من حيث لم تحتسب، وستبكي لا من الوجع، بل من جمال اللطف الإلهي حين يتأخر، ثم يأتيك كاملًا 

لا بأس…

إنك لست وحدك، وإن الله لا يُضيع قلبًا لجأ إليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى