كتاب واصل

ما بعد التمويل: الدور الاستراتيجي لإدارة المنح في تعظيم الأثر المجتمعي

لم يعد الحديث عن المنح في القطاع غير الربحي مقتصرًا على حجم التمويل أو عدد المستفيدين، بل اتسع ليشمل سؤالًا أكثر عمقًا: ما الأثر الذي تصنعه هذه المنح على المدى البعيد؟ هنا تحديدًا يبرز الدور الاستراتيجي لإدارة المنح، بوصفها الحلقة التي تربط بين الموارد المالية وتحقيق التغيير المجتمعي الحقيقي.

فالمنحة الناجحة لا تبدأ عند صرف المبلغ، بل قبل ذلك بكثير؛ عند التخطيط الجيد، وتحديد الأولويات، واختيار البرامج القادرة على إحداث أثر مستدام. وتُعد إدارة المنح أداة تنظيمية تضمن توجيه الموارد نحو الاحتياجات الأكثر إلحاحًا، بعيدًا عن العشوائية أو الحلول المؤقتة.

وفي ظل التحديات التي تواجه المؤسسات غير الربحية، مثل محدودية الموارد وتزايد الطلب المجتمعي، لم يعد التمويل وحده كافيًا. إذ أصبحت إدارة المنح عنصرًا محوريًا في تعظيم قيمة كل ريال يُنفق، من خلال المتابعة المستمرة، وقياس النتائج، وربط الدعم بأهداف واضحة قابلة للتقييم.

كما تلعب الحوكمة والشفافية دورًا أساسيًا في هذا السياق، حيث تسهم السياسات الواضحة ومعايير الاختيار الدقيقة في تعزيز ثقة المانحين وضمان عدالة توزيع المنح. فكلما كانت إدارة المنح أكثر وضوحًا وتنظيمًا، ارتفع مستوى المصداقية وازدادت فرص الاستدامة.

وتكشف التجارب الحديثة أن المؤسسات التي تنظر إلى المنح كاستثمار اجتماعي، لا كمجرد دعم مالي، هي الأكثر قدرة على تحقيق أثر ممتد. فربط المنح ببناء القدرات، وتطوير البرامج، والاستفادة من البيانات في اتخاذ القرار، يحول المنحة إلى أداة تنموية فاعلة تتجاوز الأثر اللحظي.

إن تعزيز الأثر المجتمعي للمنح لا يتحقق فقط عبر الإدارة الداخلية للمؤسسات غير الربحية، بل يتطلب أيضًا بناء شراكات استراتيجية مع الجهات الحكومية، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني. فالتعاون بين هذه الأطراف يفتح المجال لتبادل الخبرات، وتكامل الموارد، وتوسيع نطاق البرامج لتشمل شرائح أكبر من المجتمع. كما أن الشراكات تساهم في خلق بيئة داعمة للابتكار الاجتماعي، حيث يمكن للمنح أن تتحول إلى منصات لتجريب حلول جديدة لمشكلات مزمنة، مثل البطالة أو ضعف الخدمات الأساسية. ومن خلال هذا التكامل، تصبح المنح أداة لتوحيد الجهود نحو أهداف تنموية مشتركة، مما يعزز فرص الاستدامة ويضاعف الأثر الإيجابي على المدى الطويل.

ختامًا، فإن الانتقال إلى مفهوم “ما بعد التمويل” يعكس وعيًا متناميًا في القطاع غير الربحي بأهمية إدارة المنح كوظيفة استراتيجية، لا تقل أهمية عن التمويل ذاته. فحين تُدار المنح بوعي وتخطيط، تصبح وسيلة لتعظيم الأثر المجتمعي، وبناء مستقبل أكثر استدامة للمؤسسات والمجتمعات على حد سواء.

بقلم:منيره الزهراني

ماجستير الإدارة التنفيذية في الأوقاف والمنظمات غير الربحية — جامعة الباحة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى