التضحية والعطاء أجمل ما يملكون
نايف الخمري/ كاتب
الناس الكبار دائما هكذا.. لا نعرف قيمتهم إلا عندما ينطفئُون مُخلفين وراءهم ظُلمة كبيرة وحيرة وخسارة لا تُعوض وأسئلة تجرح الحلق والذاكرة. (واسيني الأعرج)
قديماً قيل أكبر منك بيوم أعرف أو أعلم منك بسنة، حين تُجالس كبار السن فإن الحديث له متعة خاصة معهم حيث تتدفق أحاديثٌهم حِكماً وقِيماً عريقة، ودائماَ ما يمتلكون كِبار السن رؤية واقعية لكل أمور الحياة انطلاقاً من خبرتهم الطويلة في الحياة، تجد في حديثهم الحكمة وفي صمتهم الهيبة والوقار وفي نظراتهم تجد الرحمة وفي ضحكاتهم الرضا، يعتزون بأخلاقهم ويتباهون بها ويتحلون بالسمت والوقار، يؤمنون بأن النجاح في الحياة يحتاج إلى الصبر والتأني دائماَ أكثر من الحظ، أراءهم تكون سديدة تفيض بالحكمة والمعرفة، يسدون النصيحة لمن يطلبها لذا كانت عُقولهم راجحة مستنيرة تتفجر حكمة وموهبة اكتسبوها من خلال تجاربهم المُتنوعة وخبراتهم المُختلفة في الحياة، اختزلوها في اعطاف نفوسهم خلال رحلة حياتهم الماضية البسيطة، يمتلكون الحكمة ويستمدون منها قوانين فلسفتهم في الحياة، تجعلنا نتعلم منهم الدروس والقيم والمبادئ، كانوا أهل حلٍّ وعقْدْ يواجهون الحياة بِعناد صامت ويستطيعون حل أي مشكلة تواجههم في الحياة بعد تقييم الأمور والبناء عليها، وما تلك الأمثال والحكم الشفاهية التي كنا نسمعها منهم ولا نفهمها في حينها أوقد نعجز عن فهمها بعض الأحيان ولا نستوعبها إلا عندما نصل إلى مرحلة عُمرية مُتقدمة، والتي كانت تخرج من القلب فهي لم تخرُج منهم إلا عن تجربة اختزلوها من خلال الأحداث والمواقف التي مرت بهم خلال رحلة حياتهم الموزعة بين الصبر والألم والمعاناة، ومن خلال الحديث معهم تستطيع الدخول في عالمهم الخفي. نجد مُعظمهم مُتحدثين بارعين في فصاحة القول ويمتلكون ذاكرة قوية هم حُراسها. التاريخ كان موجوداً في ذكريات كبار السن الذين تقدم بهم العمر بهدوء وبلغوا الآن سن الشيخوخة، أتذكر طفولتي وأنا في تجمُعات مع والدي وبعض أصدقائه عليهم ـ شآبيب رحمته ـ وفي بعض التجمعات العائلية أيضاً، حيثُ كان الناس يتشاركون قصص وحكايات الحياة في الماضي في مشهد بسيط لكنه أكثر حميمية، فوجدت نفسي أتمعن في صدورهم ووجوههم وأتحوّل لأذن كبيرة تسترق السمع وتنصت لذكرياتهم المُشعة ولكل الحكايات بشغف، كُنت أستأنس بقصصهم المُمتعة وأحاديثهم السلسة والمُشوقة ونُكاتهم المرحة ذات الطرافة التي تُغذيها أساطير الخرافة وحكايات الماضي الجميل بالرغم أن بعض تلك القصص كانت تناقض مع بعضها البعض تناقضاً صريحاً من خلال التداخل في ثناياها، سمعت عنهُم قصصاً جميلة تطرب لها الأذان في جِدهم وهزلهم لا يمل منها السامعون والتي بعضها تعتمد على الخيال وشخُوصها يكتنفها الغمُوض، يتعاملون مع بعضهم بالعفوية وحُسن النوايا الطيبة ويعبرون عما يختلج بإعماقهم بتلقائية وشفافية، كُنت أُجالس والدي ـ رحمه الله ـ الذي كان يُشجعني على الجلوس معه أثناء مجالسة كبار السن لاستماع أحاديثهم بهدف تنمية الثقة بالنفس، وصقل شخصيتي وبناء عقليتي لمواجهة مواقف الحياة المُختلفة، وكانت بالنسبة لي من أجمل الأوقات لأنني كٌنت أستمتع بتلك الأحاديث، الذي هو الاستمتاع بالخير والجمال ولم أرتوي من حكاياته ـ رحمُه الله ـ مما جعلني أشعر بالحاجة المُلحة إلى استكتاب وجمع وتدوين تلك القصص والحكايات والحفاظ على هذه التواريخ لعمل تاريخ مُوثق للمُجتمع في ذلك الزمن الغابر، حيث أصبح التدوين في هذا الزمن من الضروريات في مجالات الحياة، مُجالسة كِبار السن تُعطيك من خبراتهم وتجاربهم الحياتية الكثير وقد ساهمت أراءهم السديدة المُختلفة في توظيف التراث في بناء الإنسان ثقافياً بطريقة واعية في سبيل مُواجهة الثقافات الأخرى التي تستهدف أجيالنا الحالية لكي تعزز من غرس القيم ومن روح التلاحم والتربية وكان لها الأثر الكبير في المحافظة التراث الأصيل والموروث الشعبي.. إنهم يستحقون منا الكثير من التقدير والاحترام والاهتمام والامتنان بكل ما قدموه لنا يجب علينا إنزال كبار السن منازلهم واحترامهم وتوقيرهم ومشاورتهم في العديد من أمور الحياة، ونحاول إسعادهم بأن نكون قريبين منهم نستشعر بهجة أفراحهم وانكسارات ألآمهم قبل فوات الأوان، فقد تعلمنا منهم الحكمة والصبر وتلقائية الإخلاص والوفاء..
أخر المشوار:
قال المؤلف المسرحي البريطاني توم ستوبارد :(العُمر ثمن باهظ جداً لتدفعه ثمناً للنضوج) لذا يجب علينا الاستفادة من كبار السن ومن خبراتهم وتجاربهم والاستئناس بأرائهم والإصغاء لكلماتهم، لأننا أصبحنا في هذا الزمن نشعر بالمسافة الكبيرة بيننا وبينهم بسبب العولمة وثورة المعلومات التي دخلت حياتنا مما افتقدنا لخبراتهم وأراءهم وأقوالهم وتجاربهم المُتعددة في الحياة، حتى أن نصائحهم أصبحت تضيق بها الصدور عند البعض مما جعلهم يفتقدون لكثير من الاهتمام من حيث التواصل الاجتماعي في بعض الأحيان..



