العالم لعبة شطرنج
"في رقعة الحياة الكبرى _ حيث يواجه الحق المكر، ويثبت الصبر قوته، وتعلن الحكمة النصر على كل خداع"

✍️ فهد الرياحي
أحياناً .. يبدو العالم أمامي مثل ” لوحة شطرنج ضخمة ” كل مربع على اللوحة يروي قصة، وكل حركة تحمل درساً، وكل خطوة تُحسب بدقة. ليست القوة وحدها ما يحدد النصر، ولا السرعة وحدها ما يضمن الوصول… بل الحكمة، والصبر، والقدرة على قراءة اللوحة قبل أن يتحرك اللاعب.
في الحياة، لا يتحرك الجميع في الوقت ذاته. هناك من ينتظر دوره، ومن يتعجل، ومن يراقب بصمت. بعضهم يُدرك أن أول خطوة ليست للاندفاع، بل للفهم. كما في الشطرنج، البداية ليست هجوماً، بل افتتاحية تكشف نوايا اللاعب، وتوضح معالم الميدان الذي تتقاطع فيه النوايا، وتتصارع فيه المبادئ، وتتجلى فيه الحقيقة في انتصارات وهزائم. هنا تُقاس القوة بالذكاء، والصبر بالثبات، والحكمة بالقدرة على قراءة كل خطوة قبل أن تُخطى.
تبدأ اللعبة بخطوات صغيرة، ربما لا يلاحظها أحد، لكنها تحمل تبعات هائلة. هناك من يتحرك بالصدق والثبات، يعرف أن الصبر هو القوة الحقيقية، وأن الحق ينتصر رغم كل الالتواءات. وهناك من يراهن على المكر والخداع، يختبئ في الزوايا، يحاول الالتفاف على الآخرين، يظن أن هذا الذكاء المكشوف يكفي للفوز.
تصطف البيادق البيضاء مقابل السوداء، تحت أضاءة خافتة وأيادي تحرك ونظرات صامتة.لا مجال للمراوغة، العين في العين، “والحقيقة في المنتصف “. كل حركة على اللوحة ليست مجرد خطوة، بل اختبار للنوايا، وميدان تتجلى فيه القيم قبل أن تُقاس القوة. بعض القطع تُضحّى لحماية فكرة أكبر وتثبيت الحق، وأخرى تبقى لأنها عرفت التوقيت المثالي للحركة. في كل لحظة من حياتنا تتحرك الأحداث خطوة تلو الأخرى، وكل قرار يترك أثره على مجريات اللعبة.
اللعبة علمتنا درساً واضحاً: بيدق واحد، إن صبر ووصل للنهاية، قد يتحول إلى وزير. هكذا هي الحياة… لا تُكافئ السرعة دائماً، بل الثبات. الشطرنج يعلّمنا أن الذكاء ليس في السرعة وحدها، بل في “زاوية النظر” والصبر على الخطوات الصغيرة التي تصنع النهاية الكبرى.
وفجأة، تسقط قطعة على اللوحة . ينظر الآخرون بدهشة، وتظهر على وجوههم ابتسامات خاطئة، ظناًً أن النصر أصبح قريباً. السقوط لم يكن ضعفاً، بل كان تضحية مدروسة، تهدف لفتح طريق مخفي لا يراه إلا من يفهم المشهد كاملًا.
في هذه اللعبة، كثيراً ما تكون الخسارة المؤقتة هي أقصر طريق للفوز . الأخطر ليس من يواجهك مباشرة، بل من يمنحك حرية التحرك . ثم يحاصرّك بصمت.حتى يكتشف أن قراراته صُنعت تحت ضغط الخوف لا بهدوء العقل، وأن النهاية كانت تُرسم بصمت قبل أن يُعلن عنها.
في اللحظة الحاسمة، يجد الخصم نفسه محاصراً في زاوية اللوحة، كل الطرق مغلقة، وكل الحيل المتلوية بلا جدوى. يحاول البحث عن مخرج… لكنه يكتشف أنه محاصر. من يملك الذكاء والدهاء والقوة، هو من يقف على الحق، ويحرّك خطواته بثبات وحكمة، هو من يسيطر على اللعبة. الصمت يملأ المكان، واللوحة كلها تراقب، لتؤكد أن الذكاء بطرق المتلوية ضعيف، وأن الضجيج والخداع لا يفلحان أمام الثبات والعقل.
هكذا هي الحياة… دروسها تختبئ في التفاصيل، وصمتها أحياناً أبلغ من كل صوت . كل خطوة، كل قرار، كل صبر… كلها تؤكد حقيقة واحدة: الفوز الحقيقي ليس لمن يسقط الخصم، بل لمن يفهم العبة .
وحين يصل المشهد إلى لحظته الأخيرة، لا يحتاج الحق إلى صخب، ولا إلى استعراض قوة. يكفي أن يقف في مكانه الصحيح، ليُقال بهدوء: “كش ملك… انتهت اللعبة”.
ومن هنا تنبثق الحقيقة الأخيرة: الفوز ليس لمن أسقط خصمه، بل لمن ثبت على الحق، ووازن القوة بالعقل، وأحسن اختيار التوقيت. فالذكاء الحقيقي لا يكتمل بالدهاء وحده، بل يتوج بالحق… عندما ينتصر الحق، وتسقط الطرق المتلوية واحدةً تلو الأخرى،
لا يبقى سوى كلمة واحدة تُقال بهدوء :
“كش ملك” .




