«ما نفعله حين لا يرانا أحد…!!» “What We Do When No One Is Watching…!!”
«الله أرحم بك من ظنك بنفسك، وأقرب إليك من ضعفك، وأحكم في تدبيرك مما تتخيله رغباتك أو تخشاه هواجسك»
✒️ راضي غربي العنزي
ليست الخبيئة الصالحة فعلاً عابراً، ولا حركة صامتة بلا أثر، بل هي تلك المساحة العميقة من علاقتك بالله؛ حيث لا شهود، ولا ضجيج، ولا حاجة للتفسير. هناك فقط الله جلّ جلاله، يرى النية قبل العمل، ويزن الصدق قبل الكثرة. الخبيئة الصالحة أن تفعل الخير لأن الله أهلٌ له، لا لأن العالم ينتظر عرضاً جديداً من الفضيلة.
في زمنٍ صار فيه كل شيء قابلاً للنشر، حتى المشاعر والنيات، تصبح الخبيئة الصالحة فعلاً ساخراً من هذا الإفراط الاجتماعي. كأنها تقول بهدوء وذكاء: لستُ مضطراً أن أُعلن طهارتي لأثبتها، ولا أن أشرح صدقي ليُقبل. يكفي أن يعلم الله، ومن علمه الله فقد كفاه.
قد تكون الخبيئة ذكراً خافتاً تردده بينك وبين نفسك، أو ركعتين تؤديهما حين يخفت العالم، أو صدقة تتسلل من يدك دون اسمٍ ولا صورة، أو كربة ترفعها عن إنسان ثم تمضي، أو آياتٍ تتلوها كمن يعيد ترتيب قلبه، أو دمعة صادقة تنكسر بين يدي الله دون خطاب. كل ذلك، حين يُخفى، يكبر. وكلما خلا العمل من العيون، امتلأ بالمعنى.
ولعل المفارقة الفلسفية أن أكثر ما ينقذ الإنسان لا يراه أحد. الفيلسوف الروماني الرواقي سينيكا كان يقول، بمعناه العميق، إن الضمير الهادئ أعظم من تصفيق الجموع، لأن الحقيقة لا تحتاج جمهوراً. هنا يلتقي العقل الفلسفي مع الإيمان؛ فالإخلاص ليس فكرة دينية فحسب، بل حكمة إنسانية خالدة.
الله سبحانه وتعالى لا يحتاج أن تُظهر له أعمالك، فهو العليم بما في الصدور، وهو القائل:
﴿إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾
آيةٌ لا تمدح الفعل وحده، بل تعيد تشكيل النية، وتعلّم القلب كيف يتحرر من عبودية الظهور، ويستقر في عبودية الله وحده.
وفي الحديث الصحيح، قال النبي ﷺ:
«سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله… ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
ليس الحديث عن وفرة المال، بل عن صفاء السر، وكأن النجاة لا تُقاس بحجم العطاء، بل بدرجة خفائه.
الخبيئة الصالحة، اجتماعياً، فعل مقاومة راقٍ. مقاومة لثقافة المقارنة، ولهوس التقييم، ولسؤال: ماذا سيقول الناس؟ إنها تذكير صامت بأن القيمة الحقيقية لا تُقاس بالانتشار، بل بالأثر العميق في النفس. ولهذا قال الحكماء إن الإنسان إن أصلح سريرته، استقام ظاهره دون عناء.
ومن واقعٍ قريب، يُحكى عن شابٍ اعتاد أن يساعد عاملاً مسناً في دفع عربته كل صباح، دون اسم ولا حديث. مضت السنوات، وتعثر الشاب في أزمة قاسية، فانفرجت له بطريقة لم يكن يتوقعها. لم يربط بين الأمرين مباشرة، لكنه قال بثقة هادئة: الله لا ينسى أحداً. ليست القصة معجزة، بل خبيئة صالحة عادت في وقتها.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بمعنى نافذ: ما أضمر أحدٌ شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه. والخبيئة الصالحة، وإن خفيت، لا بد أن تُثمر نوراً في السلوك، وطمأنينة في الروح، واتزاناً في المواقف. هي استثمار طويل الأمد، لا يخضع لمزاج التصفيق.
الله جلّ جلاله، في رأفته وحكمته، لا يضيّع عملاً، ولا يغفل عن نية، ولا يخذل قلباً قصده بصدق. توحيده ليس فكرة نظرية، بل أمان عملي؛ أن تفعل الخير وأنت مطمئن أن الله واحد، حكيم، رحيم، يعلم ضعفك، ويقدّر محاولتك، ويحفظك به.
الخبيئة الصالحة ليست انعزالاً عن الناس، بل تصحيح علاقة مع الله، تنعكس تلقائياً على الحياة. هي أن تكون صالحاً في السر، فيستقيم علنك دون تكلّف. وهي أن تبتسم بسخرية واعية من وهم الشهرة، لأنك وجدت ما هو أعمق: رضا الله.
وفي الختام، ربما أعقل ما يفعله الإنسان في زمن الضجيج، أن يحتفظ بشيءٍ خالصٍ بينه وبين الله. شيء لا يُنشر، ولا يُشرح، ولا يُبرَّر.
خبيئة صالحة… صغيرة في عين الناس، عظيمة عند الله.
اللهم وفّقنا لخبيئة صالحة ترضيك، وتزكّي قلوبنا، وتحفظنا بك، إنك أنت الله، الواحد الأحد، الرحيم الحكيم، الذي لا يضيع لديه خير، ولا يخيب من قصده.
●بين قوسين …
في اللحظة التي تختار فيها أن تعمل لله وحده، ينكسر وهم العالم من حولك، وتسقط الأقنعة بلا ضجيج. هناك، في الظل الذي لا يراه أحد، يُعاد تشكيلك من الداخل، وتُكتب قيمتك الحقيقية لا بما أُعلن، بل بما خُبِّئ. فالله لا يصنع العظمة في الضوء أولاً، بل يزرعها سراً، ثم يطلقها حكمةً حين يشاء. ومن وجد الله، لم يحتج شاهداً.
● ابتسم الآن ….فأنا أكتب من أجلك …ولآخرين من ضوء…!
*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 479438
■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■



