كتاب واصل

” الهابتوس (Habitus) ” — طَّبعُك الثاني …!!

«وفي كل قلبٍ بابٌ صغير، يفتحه الله برحمته حين نظنُّ أن الدنيا أغلقت علينا كل الأبواب.»

✒️ راضي غربي العنزي – كاتب سعودي

بفضل الله؛ الواحد الأحد، الذي بيده تَصنع النفوسُ طبائعها وتتهذّب سرائرها، تبدأ الحكاية عادةً من مكانٍ لا يراه أحد… من داخل تلك المنطقة التي يسمّيها الفلاسفة «الهابتوس»، ويسميها الناس: الطبع الذي يتقدّم خُطانا قبل أن نمشي، ويتكلم نيابةً عنا حين نظنّ أننا نُحسن الاختباء.

الطبع الثاني ليس نسخةً منك، بل نسخةً من الحقيقة التي تحاول التظاهر بأنها لا تسكنك. ذلك الذي يقفز في لحظة الغضب، أو يصفعك أثناء الهدوء، أو يربّت على كتفك حين تظنّ أنك تحولتَ إلى حجر. يقول سقراط إن الإنسان يُعرَف في ثلاثة: الغضب، والمال، والفراغ. وأنا أضيف: يُعرَف أيضاً بما يُخبّئه بين طبقه الأول والثاني… بين الوعي الذي تبرمجه، والوعي الذي يبرمجك.

يقول الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾. ما من طباعٍ تُصقَل إلا بنورٍ يهبه الله لعبده، نورٌ لا يُرى لكنه يُربّي الداخل كما تُربَّى الأشجار التي تنبت في الظلال ثم تتحدى الغابة كلّها. وفي الحديث الشريف: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». كأن القلب هو المختبر الذي يُصنع فيه الطبع الثاني على مهل، دون إعلان، دون ضوضاء، وكأن الله —بكرمه— يُعيد تشكيل عبده كلما لجأ إليه، ولو بشعورٍ خافتٍ من الندم أو بذرّة رجاء.

أفلاطون يقول إن النفوس تتعرّف إلى نفسها بعد سلسلة طويلة من الاصطدامات. وأنا أرى أن الطبع الثاني هو نتيجة تلك الاصطدامات التي لم ينتبه لها أحد، تلك الندبات الصغيرة التي تُعلّمك كيف تتكلم بصوتٍ أقلّ حدّة، وكيف تمشي بقلبٍ أقلّ خشونة، وكيف تُخفي الألم بابتسامةٍ لا يعرف سرَّها إلا الله الذي يُدير القلوب بلطفه.

ولأن الحياة لا تمنحنا الحكمة مجاناً، دعني أحكي لك قصة حدثت قبل أشهر: رجلٌ كان ينهار كلما خسر عملاً، يظن أن العالم يتآمر عليه. في أحد الأيام خسر وظيفته الثالثة.. خلال عامٍ واحد…! بدل البكاء المعتاد، خرج يمشي على غير هدى، فمرّ بعامل نظافة يبتسم رغم حرّ الشمس. قال الرجل ساخطاً: «كيف تبتسم وأنت تعمل في كل هذا التعب؟» رد العامل بهدوءٍ يُشبه الحكمة : «لأن الله يراني… وهذه وحدها تكفيني.» كانت تلك الجملة الشرارة التي صنعت ( طبع ) الرجل الجديد. لم يصبح فيلسوفاً بين ليلةٍ وضحاها، لكنه صار يرى بنورالله المرسل له التفاصيل لكلها، ويحمد في السراء والضراء، ويتعامل مع الخسارات كأنها أبواب تُفتح لا تُغلق. وكل من يعرفه اليوم يظن أن شخصاً آخر يسكنه… وما تغيّر حقاً إلا الطبع الذي صقله الله تعالى فيه بحكمته .

حين نفهم الطبع الثاني، نعرف لماذا يبتسم بعض الناس في أقصى التعب، ولماذا يخجل بعضهم من أن يجرح كلمةً عابرة، ولماذا تُنبت أرواحٌ ما زال فيها خيرٌ مهما حاول العالم كسْرَها. نعرف كيف يمكن لله —بلطفه— أن يغيّر المسار كله بكلمة، أو بدمعة، أو بنورٍ خفيّ ينزل على القلب في الليل حين ينام الجميع. إن الطبع الثاني ليس صدفة؛ إنه منحةٌ إلهية تُكتب لمن صدق في طلب الإصلاح.

ديكارت يقول: «أنا أفكر إذن أنا موجود.» أما الحقيقة التي لا خلاف عليها فهي: «أنا أُصلح قلبي إذن أنا أتقرب إلى الله.» ومع كل خطوة صادقة نحو التهذيب، يتشكل طبعٌ جديدٌ قادر على حملك حين تتعب، وعلى إسكات غضبك حين يثور، وعلى مسح غبار الأيام عن كتفيك كأنك لم تسقط من قبل.

والطبع الثاني ليس لطيفاً دائماً… أحياناً يكون مرآةً تضعك أمام نفسك بلا مكياج. يفضح تناقضاتك، يكشف نواياك، يذكرك بأنك لا تُحب الناس كما تدّعي، ولا تصبر كما تتظاهر، ولا تسامح كما تقول. لكنه يفعل ذلك كي يُعيدك إلى الطريق الذي يريدك الله أن تسلكه: طريق الصدق، طريق النور، طريق القلب الذي يعرف أن الله أعظم من كل جرح، وأوسع من كل خيبة.

نقطة قبل السطر:
ليتك تعرف أن الله قادرٌ على أن يجعل طبعك الثاني أحسن من الأول بألف مرّة… فقط إذا جئتَه بقلبٍ يريد الحياة بنورٍ لا ينطفئ.

■ نقطة مهمة جدا للذي لم يستوعب بعد :
مصطلح “الهابيتوس” (Habitus) هو مفهوم محوري في علم الاجتماع، وقد طوره عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu) وجعله ركيزة أساسية في نظريته.
●( باختصار، الهابيتوس هو الطريقة التي يرى بها الناس العالم الاجتماعي ويستجيبون له، وهو نتاج تفاعل مستمر بين الفرد وبيئته الاجتماعية، ويصبح جزءاً لا يتجزأ من هويتهم وتصرفاتهم اليومية.

● ابتسم الآن ..فهناك من يحبك ويكتب لأجلك ..وليضئ دروب الآخرين !!!

*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 479438
●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●
RadI1444@hotmail.cOm

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى