(من ذاكرتي الرمضاني)

كان لرمضان في القرية طعم خاص. فما أن يقترب الشهر الكريم حتى تبدأ الاستعدادات لشهر رمضان في كل بيت من بيوت القرية، وكان يبدأ الاستعداد في أواخر شهر شعبان ويقبل الجميع على شراء أصناف الأطعمة الرمضانية استعداداً للصيام وتكون هناك حركة غير عادية ويحاول البعض يصنع البهجة والفرح لأهاليهم، بالرغم ما يعانيه البعض من قلة المادة وضيق الحال في ذلك الزمن، إلا أن رمضان جاء ليرسم السعادة، ومن العادات المحببة للنفس لدى الجميع أن يبدأ الإفطار بالماء والتمر والرطب أحياناً، ثم بعد صلاة المغرب ثم يتم إكمال الإفطار بتجمع الأهل، والبعض يفضل الاستمرار في الأكل حتى النهاية ثم يؤدي الصلاة حسب عادات وتقاليد المجتمع، وصورة اليوم الأول من أيام شهر رمضان تُشكل الكثير من الإضاءات المشرقة حول حياة الناس في ذلك الزمن الماضي ..
ومن أشهر الأكلات في رمضان: الشوربة، السمبوسة، الشعيرية، والحلى المعروف في ذلك الزمن وهو ما يسمى بالتطلي (الكاسترد). وعندما يأتي وقت السحور يتناولون ما تبقى من وجبة الإفطار مع بعض الوجبات الخفيفة التي تتألف من الأكلات الشعبية، وبعض الأسر كانت تتفنن في أصناف رمضان ما بين الشوربة والسمبوسة واللقيمات وغيرها وكان التوت أهم مشروب في رمضان ويتصدر المشهد مع بعض المشروبات الأخرى المتنوعة،
فالسُّفرة السعودية بشكل عام لا تخلو من الأكلات الشعبية المتاحة لديهم في ذلك الوقت حسب كل مجتمع حيث تتشابه الكثير منها في جميع المجتمعات، مع تداخل بعض الأكلات الأخرى والبعض من العوائل يقدم الأكل والمشروبات حسب مقدرتهم وكان يتعهد الجيران بعضهم البعض بإرسال وتبادل بعض أنواع الطعام كنوع من الصلة والتواد، وعادة ما تكون مائدة الإفطار الرمضانية قليلة الأصناف في بعض البيوت..
رمضان في القرية كان يبدأ بإشعال إطارات السيارات المستعملة والقديمة ويتم تجميعها من قبل مجموعة من الشباب والصغار قبل رمضان في الأسبوع الأخير من شهر شعبان وهذه العملية تأخذ أيام من التحضير والتجهيز. ويتجمع الجميع تحت اشراف الكبار منهم المتمرسين في هذا العمل، الذي عادة ما يكون جماعياً. ويحددون الأماكن التي توضع بها وعادة ما تكون في أعالي الجبال لكي يشاهدها الجميع وتشاهدها القرى المجاورة وعندما سماع خبر دخول الشهر في الراديو وبمجرد ثبوت الهلال وإعلان شهر رمضان، يعمّ الفرح بين الجميع ويتم استقبال رمضان بفرحة غامرة، ويبدأ إشعالها وتستمر حتى الهزيع الأخير من الليل مشتعلة ودخانها يصل عنان السماء في وسط جو من البهجة والسرور والمتعة، وكانت بمثابة الألعاب النارية حالياً، ويستعد الجميع لصلاة العشاء في المسجد وصلاة التراويح الأولى في ليلة ثبوت الرؤية، ويبدأ انبعاث أصوات المساجد بالترتيل والدعاء، ثم تبدأ الحركة تدب في الأماكن والطرقات والشوارع وبين الناس والجميع في حالة حبور وفرح، ولا تكتمل مراسم رمضان إلا بسماع مدفع رمضان عند الإفطار متبوعاً بصوت الأذان إيذاناً بالإفطار سواء في الراديو أو المكان المخصص لصوت المدفع الذي يتيح للجميع سماعه، ثم الدعاء بتقبل الصيام، وكذلك وقت السحور عند الإمساك لإعلان صيام يوم جديد، وعادة يجلسون الأطفال خارج البيوت منظرين سماع صوت المؤذن وعند سماع الآذان يهرولون مسرعين فرحين يسابقون الوقت ويسابقون بعضهم للوصول إلى منازلهم لإبلاغ أهاليهم بالأذان والبدء بالإفطار وفي بعض الأحيان ربما قد يتأخر المؤذن قليلاً علماً بدخول الوقت ويظل الجميع مُمسكين بحبات التمر في أيديهم حتى سماع صوت المؤذن معتبرين الصوت أهم من الوقت ،
ونحن أطفال عندما يأتي رمضان كنا نحاول أن نصوم نصف يوم أو يوماً كاملاً. وكنا نسأل بعضنا البعض (صايم أم فاطر)؟ ونطلب من كل واحد منا أن يخرج لسانه لكي نتأكد من الذي هو صايم فعلاً وكان الذي يُخرج لسانه ويكون لونه أحمر كانت هذه دلالة على أنه قد أفطر والذي يخرج لسانه ويكون لونه أبيض فهو فعلاً صايم. وكان البعض لا يستطع أن يُكمل اليوم إلى آخره حيث يتوقف عند منتصف النهار أو بعد الظهيرة والبعض الآخر يُكمل اليوم بكثير من الصبر وطول الأناة.
كانت الحياة في شهر رمضان قديماَ أكثر هدوءً وبساطة خاصة في النهار بالرغم من ذلك فهي لا تتوقف في نهار رمضان وسط أجواء رمضانية تراثية مُبهجة.
والسمر كان هو الشيء المُكمل لمساء وليالي رمضان. حيث تنتشر جلسات السمر في عدة أماكن مثل ساحات السوق، وبجوار المسجد وأمام البيوت وغيرها، حيث يجتمع الكبار بعد صلاة العشاء والتراويح لكي يتسامرون وينطلق الشباب والصغار ويجدونها فرصة للانغماس في لعب (الكيرم والضومنة) ومُمارسة بعض الألعاب الشعبية في القرية إلى أوقات متأخرة من الليل تمتد أحياناً إلى ما قبل السحور والجميع سعداء، حتى الخلافات تتلاشى بكل تكاد تختفي في هذا الشهر الفضيل، إذ تنتعش بسطات البليلة والتوت وغيرها وتنتشر في أماكن مختلفة، والكل يتنافس في طريقة اعدادها كي يجذب الزبائن. ويشهد المكان مزيداً من الضجيج والحركة. وكانت جميع الأسر في البيوت يتابعون يوميات (أم حديجان) في ليالي رمضان على الإذاعة، حيث كان هو المسلسل الوحيد الرئيسي الذي تتحلق حوله الأسرة لمتابعته بكل تفاصيله محاولة لفهم قيمه ومضامينه.
لقد كانت أيام رمضان في الماضي تتسم بالبساطة والحميمية بين الأهل والجيران بطقوسهم الجميلة وعاداتهم المُحببة، حيث العلاقات الجميلة والمودة والمحبة والصدق في جو من الألفة والتسامح وكانت تبدو الحياة أكثر روعة ترسم الإنسانية في أجمل صورها..
رمضان قديماً كانت له رائحة ونكهة وعبق خاص، بمظاهر الحياة الاجتماعية الرمضانية الجميلة والبسيطة وتكتمل الأجواء الرمضانية في القرية بالجلسات البسيطة المستسقاة من عادات وتقاليد المجتمع القديمة في الزمن الجميل والتي تتشابه في كثير من القُرى، والتي تنتشر في ساحات السوق والقرية، وهناك العديد من المظاهر المرتبطة في الذاكرة ومازالت ماثلة في الأعين التي لا يمكن نسيانها تحتفظ بها عن الأمكنة والشخوص، ولا يسع المجال لذكرها،
وكان للأسبوع الأخير من رمضان نكهة خاصة، فهو موسم الاستعداد للعيد. وتبدأ موائد الطعام تتناقص وتقل أحجامها وتفقد حلاوتها وطعمها وتمضي الأيام تتسارع إيذاناً بقرب انتهاء شهر رمضان، حيث يقوم الآباء بتجهيز كسوة العيد لأبناهم وأسرهم حيث من الواجب شراء كسوة العيد للظهور بمظهر بحلة زاهية ومظهر جميل ويتم تحضير حلويات العيد والصغار يجهزون ألعاب (طراطيع العيد) المُبهجة والتي هي من عادات وتقاليد العيد والتي يتم تفجيرها أمام المنازل والتي تُعبر عن الفرحة والسعادة التي تملأ قلوب الصغار وتضفي جو من البهجة والمرح خلال أيام العيد، بالرغم من روعتها إلا أنها تُشكل خطراً على مستخدميها في حالة عدم التعامل معها بالطريقة الصحيحة وعادة في ذلك الزمن لا يستطيع الكل شراءها إلا من كانوا ميسوري الحال والغير قادرين على شراءها يكتفون بالاستمتاع بمشاهدتها وسماع أصوات فرقعتها من بعيد ووجوههم مبتسمة ضاحكة في سعادة وحبور.
تلويحة:
صياماً مقبولاً وإفطاراً شهياً، مقالي القادم عن مظاهر العيد في الماضي.