التعب الذي لا يقال

د.خالد الغامدي اخصائي نفسي وخبير تربوي
حين لا يجد الإنسان مساحة آمنة للتعبير عن مشاعره، يتكفل الجسد بالمهمة. ويشاع الاعتقاد بأن التعب النفسي يظهر بصورة مفاجئة، غير أن الواقع يشير إلى أنه غالبًا ما يكون نتيجة تراكمات طويلة من الضغوط والصمت الداخلي. فعندما يعجز الإنسان عن التعبير عمّا يعتمل في داخله، يبدأ الجسد في إرسال إشارات تنبيهية، لا بقصد الإيذاء، وإنما للدلالة على وجود خلل يحتاج إلى انتباه ومعالجة.
ولا يقتصر هذا الأمر على فئة عمرية محددة، بل يظهر بوضوح لدى الأطفال والمراهقين كذلك. فحالات الصداع المتكرر، أو آلام المعدة، أو الشعور الدائم بالإرهاق، لا تكون دائمًا أعراضًا جسدية بحتة، بل قد تمثل انعكاسًا لحالة نفسية ضاغطة لم تجد طريقها إلى التعبير اللفظي، خاصة لدى من يفتقر إلى مهارات الإفصاح أو يخشى البوح بما يشعر به.
ومع استمرار الضغوط اليومية، يتسلل التوتر تدريجيًا وبصورة غير ملحوظة. مظاهر بسيطة مثل القلق المتكرر، كبت المشاعر، وتأجيل فترات الراحة، قد تبدو غير مؤثرة في ظاهرها، لكنها مع الوقت تتحول إلى عبء نفسي ثقيل. عندها تبدأ الأعراض في الظهور بشكل أوضح، كاضطرابات النوم، أو ضعف الشهية، أو سرعة الانفعال، وقد يفقد الإنسان اهتمامه بالأمور التي كانت تمنحه شعورًا بالاستقرار والرضا.
وتتفاقم الإشكالية حين تُساء قراءة هذه الإشارات، خصوصًا لدى الأطفال والمراهقين. فقد يُوصَف الطفل بالكسل، أو يُتهم المراهق بالعصبية، أو يحمّل الإنسان نفسه مزيدًا من الصبر والتحمل، دون التوقف لطرح سؤال جوهري: ماذا يحدث في الداخل؟ وفي كثير من الحالات، يكون التغير المفاجئ في السلوك تعبيرًا غير مباشر عن ضغط نفسي أو حاجة ملحّة للدعم والاحتواء.
إن التقليل من شأن هذه المؤشرات أو تجاهلها بحجة أنها مؤقتة قد يؤدي إلى تفاقمها. فالجسد لا يتجاوز ما يُثقل عليه، بل يعاود إرسال رسائله بصورة أكثر وضوحًا إذا لم يُستجب لها. ومن هنا تبرز أهمية التوقف، والإنصات بوعي، وفتح مساحات آمنة للحوار، سواء مع الذات أو مع الأبناء ومن تقع مسؤوليتهم تحت رعايتنا.
ويلعب نمط الحياة دورًا محوريًا في الوقاية من الوصول إلى مراحل الإنهاك النفسي. فالنوم المنتظم، والنشاط البدني، والحد من مصادر التوتر المستمر، وبناء علاقات قائمة على الدعم والتفاهم، جميعها عناصر أساسية للحفاظ على التوازن النفسي. إذ لم يعد الاهتمام بالصحة النفسية خيارًا ثانويًا، بل ضرورة لا تقل أهمية عن العناية بالصحة الجسدية.
وعندما تستمر الأعراض أو تبدأ بالتأثير في جودة الحياة والأداء اليومي، فإن اللجوء إلى المساعدة المتخصصة يُعد خطوة واعية ومسؤولة، لا تعبيرًا عن ضعف أو فشل. فالتدخل المبكر يسهم في الحد من تفاقم المعاناة ويمنح فرصة حقيقية للتعافي.
وتنسجم هذه الرؤية مع تعاليم الإسلام التي تحث على الاعتدال وصيانة النفس، فقد قال النبي ﷺ:
«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلّ خير» (رواه مسلم)،
كما قال ﷺ: «لا ضرر ولا ضرار» (رواه ابن ماجه)، وهو مبدأ شامل يمكن تطبيقه على مختلف جوانب الصحة النفسية والجسدية.
أرى أن الإصغاء لإشارات الجسد ليس ترفًا فكريًا، بل ممارسة واعية تعكس مسؤولية الإنسان تجاه نفسه ومن حوله. فكلما أُخذت هذه الرسائل على محمل الجد في وقت مبكر، أمكن الوقاية من كثير من صور الإنهاك النفسي، وبناء حياة أكثر اتزانًا وطمأنينة، قائمة على الوعي والرعاية الذاتية.



