” دنيا فانية… وآخرة باقية “
كل ما عليها فان… وما عند الله باقٍ أبدياً… فَاعْمَلْ لما شئت ..!

✍️ بقلم: فهد الرياحي


لم تُخلق الدنيا لتسع أحلامنا، ولا لتمتد بأعمارنا، ولا لتمنحنا أمناً دائماً. خلقها الله وأخبرنا أن كل ما فيها مؤقّت، وكل ما نعانقه فيها ينفلت من بين أيدينا مهما اشتد حرصنا. تمضي كعُمق نهرٍ لا يعود ماؤه، وتُفلت ساعاتها كما يفلت الضوء من يدٍ لا تُمسكه. ولهذا قال الله —جلّ وعلا —الكلمة الفاصلة :
﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾ .. إعلان صريح بأننا نعيش فوق أرضٍ تتبدل، وتُغير كل شيء… إلا حقيقة فنائها.
وفي اللحظة التي نظن فيها أن الدنيا تتسع لطمأنينتنا، تكشف لنا عن هشاشتنا، وتدفعنا إلى النظر نحو دارٍ أخرى… دارٍ لا يخطو إليها الفناء، ولا ينقص نعيمها، ولا يُطفأ نورها؛ تلك التي قال عنها الحق سبحانه:
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾
هنا يظهر الطريق كما هو: دنيا تُفلت، وآخرة تُبقى. وهذا الإدراك هو مفتاح قلب الإنسان نحو المعنى الحقيقي للحياة والعمل الصالح. ومتى أدرك الإنسان هذه الحقيقة، تبدأ الأسئلة العميقة بالصعود إليه: لماذا نطارد ظلاً لا يبقى؟ لماذا نُغرق قلوبنا بالحزن على ما يفنى، ونقلل العمل لما يبقى؟ولماذا نحمل أنفسنا أثقالاً لا وزن لها عند الله، بينما نغفل عمّا يرفعنا إليه؟
الذي يتأمل مشاهد العمر يدرك أن الرحلة مبنية على قانون واحد: كل شيء يتناقص… إلا العمل الصالح. المال يتبدّد، والصحة تتقلّب، والوجاهة تتبدّل، والوجوه تتوارى… ويبقى أثر الطاعة ثابتًا في صحيفة لا تُطوى.
ومن السنة النبوية، قال النبي ﷺ:
“كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل” [رواه البخاري ومسلم]
فالتذكير بالابتعاد عن التعلق بالدنيا وتوجيه القلب للآخرة يجعل الإنسان أكثر وعياً بما يبقى عند الله.
ولذلك قال السلف : “اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها، واعمل للآخرة بقدر بقائك فيها.”فمن قَصُر عمله قصُر مقامه، ومن أخلص طال عطاؤه، وارتفع ذكره، ودام نعيمه. فالعمل الصالح هو الباقي، والدنيا وسيلة وليست غاية، والآخرة دار الثبات والجزاء.
الدنيا تربي الإنسان على الفناء؛ تشدّه نحوها ليُعطي، ثم تُفاجئه بأنها لم تكن يوماً له. أما الآخرة فتربيه على دوام الجزاء، وتُخبره أن كل خطوة تُؤخذ لله لا تضيع، وكل جهدٍ صادق يُرفع، وكل خيرٍ صغير يُثمّر.
وبين هذا وذاك : فَاعْمَلْ لِما شِئت !
فلا مغرور بالدنيا إلا خاسر، ولا عاقل إلا من عرف ميزان اللحظة: هنا تعب قصير يعقبه نعيم، وهناك نعيمٌ طويل يعقبه رضا لا يزول.
وحين يوقن القلب بأن آخر العمر أقرب مما يظنّ، يتخفف من أثقال الناس، ويترك ما لا ينفع، ويتفرّغ لما يحفظه الله له.
لا يطيل النظر في زينةٍ تزول، ولا يركض خلف طرقٍ تستهلكه، بل يُدرك أن الاستقامة أعظم رزق، وأن رضا الله أعظم مكسب.
وفي النهاية… السعيد من جعل الدنيا معبراً، لا مقراً . ومن حمل قلبه نحو دارٍ قال عنها الله :
﴿ حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾
فصلّوا على من جاء بالنور والهداية،
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد ﷺ.


