كتاب واصل

مقعدٌ ينتظر ضحية…!! “A Seat Awaits Its Victim…!!”

«يُظلِّل اللهُ عباده بلطفٍ خفيٍّ؛ يُبعد عن قلوبهم الأذى، ويُقرِّب إليهم نور الحكمة، كأن رحمته تمسك اليد قبل أن تخدش روحًا لا تستحق الوجع.»

 

✒️ راضي غربي العنزي – كاتب سعودي

في البدء لم يكن الكلامُ سيدًا، بل كان الصمتُ هو الملك الذي يضبط فوضى القلوب، ويمنع البشر من الانحدار نحو هاوية الظنّ والغيبة والجرح. في البدء كنا نولد بنقاءٍ يليق بخلقٍ كرّمهم الله الواحد الأحد، ثم تفرّقت بنا الطرق؛ فمِنّا من مشى بنور قلبه، ومنّا من ظنّ أن الهمس خلف ظهور الناس بطولة، وأن الظلال قادرة على هزيمة الضوء. الحقيقة ـ كعادتها ـ لا تتواضع لأحد؛ فهي تتقدم كجبلٍ يعرف صلابته، وتقول لنا في كل يوم: إن الكلمة خنجرٌ أو جناح، وإن الإنسان يكتب سيرته لا بحبر، بل بما يتركه لسانه على أرواح الآخرين.

هناك شغفٌ غريب لدى البعض بأن يلوّنوا ظهور الناس بما لا يليق، كأن الكلام سلاحٌ مباح، وكأن القلوب ليست قابلة للكسر، وكأن السمعة شيء يُسحب ويُرمى دون خشية من الله الذي يعلم السر وأخفى. هذا الطعن في الغياب ليس قوة، بل سقوط صغير يكبر في ميزان الحق. ومن عرف قدر الله، لم يسلّم لسانه لنزوات الضعف. قال تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا﴾، فكيف لإنسانٍ كرّمه الله أن يقبل ما يمقته الطبع قبل الشرع؟ وكيف لروحٍ مؤمنة أن تجرح روحًا أخرى دون سبب؟ ثم يأتي صوت النبي ﷺ ليضع فاصلاً قاطعًا: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»… ومن لم يسلم الناس من لسانه، فقد خان الأمانة قبل أن يخون البشر.

ولأن الحكماء يدركون طبيعة النفس، فقد قال سقراط يومًا: «حين تتحدث عن الآخرين، فإنك ترسم ملامحك أنت.» وقال أرسطو: «الشجاعة الحقيقية أن تمسك لسانك حين يغريك الكلام.» وكأنّ الحكمتين خرجتا من قلب زمنٍ بعيد لتجلسا اليوم بيننا، تراقبان منصات الناس وهم يتسابقون إلى الطعن، فينهزمون دون أن يشعروا.

ورغم قسوة بعض الأحاديث، يبقى الله لطيفًا بعباده، يحفظ من صدقت نواياهم، ويصون من طهرت قلوبهم. ولأجل هذا المعنى، أروي لك قصة حديثة حدثت في إحدى الشركات. رجلٌ هادئ، يعمل بصمت، لا يجيد الثرثرة ولا يحب الظهور. اجتمع عليه ثلاثة يختلقون عنه ما لا أصل له. وصل الكلام إلى المدير، فاختبره بمهمة معقدة تتطلب أمانةً وضميرًا. أنجزها الرجل بإتقان يفوق المطلوب، فلما رآه المدير قال للفريق كله: «هذا الرجل يتحدث بعمله… أمّا أنتم فيتحدث بكم فراغكم.» صمتوا جميعًا، وبقي هو ثابتًا كأرضٍ رُويت بالماء. أخبرني وهو يضحك: «لم أحتج أن أدافع عن نفسي، الله تكفّل بي.» وهكذا ينتصر الله لأهل الصدق دون أن يرفعوا أصواتهم.

من يعتاد الطعن بالناس يعيش قلقًا لا يهدأ، يخشى كل ظل، ويظن أن الجميع يفعل ما يفعله هو. أما من حفظ الله في أقواله، فيسكنه سلامٌ يشبه شجرةً تضرب جذورها عميقًا، تتحدى الريح وتتفوق على غابة كاملة بصلابتها ونبلها. الإنسان الذي يُدرك وحدانية الله، ويعظّمه في السر قبل الجهر، يعلم أن الكلمة شهادة، وأن الله سيحاسبنا عنها كما يحاسبنا عن أعمالنا. لذلك فإن أجمل الوفاء أن تحفظ من تحب حتى وهو غائب، وأن تصون من ابتعدت روحه عن مجلسك، وأن تكون نبيلاً حتى لو لم يرك أحد.

والعجيب أن بعضهم يظن أن الكلام على ظهر غيره بطولة، بينما البطولة الحقيقية أن تحمي ظهره في غيابه. البطولة أن تقول خيرًا أو تصمت. البطولة أن تُضيف للعالم قيمة لا جرحًا. البطولة أن تختار الله على أهوائك، وأن تجعل لسانك طريقًا للخير، لا سكينًا تتنقّل من كتفٍ إلى كتف.

وفي آخر المشهد ـ حين يسقط غبار الكلام الرخيص، وتنكشف الوجوه من خلف دخان الهمز واللمز ـ لا يبقى إلا الذين رفعهم الله بصدقهم، وثبّت خطاهم بإحسانهم، وجعل سيرتهم أعلى من ضيق الألسن. فالكلمة تعود إلى صاحبها، كالسهم يرجع إلى اليد التي أطلقته، إما نورًا، أو شررًا يحرق صاحبه قبل غيره. ولأن الله لا يضيع عباده، فإنه ينصر الشجرة الصالحة ولو وقفت وحدها في وجه غابة كاملة؛ يسقيها بسره، ويحيطها بعينه، ويجعل ظلّها ملاذًا لمن ظُلم.

وهكذا… ينتصر الضوء، ويخسر الظل، وتنهض الحقيقة على أنقاض الثرثرة، معلنةً أن الإنسان لا يُقاس بما يُقال عنه، بل بما يتركه في الأرض والقلوب. وأن الصامت النبيل أعلى مقامًا من صارخ بلا مبدأ.
وطوبى لمن جعل لسانه سجادته إلى الخير، وترك للناس ضجيجهم، ومضى نحو الله… مستقيمًا كرمحٍ لا ينحني
ولا يلتفت.

*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 479438
■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■Radi1444@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى