كتاب واصل

*التعلّم بالممارسة المكثّفة: طريق فعّال لغرس القيم وتنمية المسؤولية لدى المراهقين*

✍️ د. يحيى الغامدي

يمثل غرس القيم وتنمية المسؤولية المجتمعية لدى المراهقين أحد التحديات المركزية في التربية المعاصرة، خصوصًا مع اتساع فجوة العلاقة بين المدرسة والحياة اليومية. وبرغم وفرة البرامج الوعظية والمحاضرات التوجيهية، إلا أنّ آثارها غالبًا ما تكون مؤقتة، لغياب التجربة الحية التي تمكّن الطالب من الشعور بالقيمة قبل معرفتها. من هنا برز اهتمام الباحثين بفكرة التعلّم بالممارسة المكثّفة، حيث يعيش المتعلم تجربة واقعية متتابعة، متدرجة، ومقننة، تقوده من الفهم النظري إلى الارتباط الوجداني ثم إلى الفعل السلوكي المستدام.

*أولاً: الأساس التربوي للفكرة*
تستند هذه الفكرة إلى عدد من النظريات التربوية الحديثة:

1. التعلم القائم على الخبرة (Kolb, 1984)

يرى كولب أن التعلم العميق يحدث عبر أربع مراحل مترابطة:
تجربة عملية → تأمل → تشكيل معنى → إعادة تطبيق.
أي أن الخبرة الواقعية ليست إضافة جانبية، بل جوهر عملية التعلم.

2. التعلم الاجتماعي (Bandura, 1997)

يتعلم المراهقون السلوك عبر النمذجة والمشاهدة داخل بيئة جماعية، مما يجعل تجربة المشاركة في عمل مجتمعي ضمن مجموعة محفزًا قويًا لتثبيت السلوك.

3. التعلم بالخدمة المجتمعية (Service Learning)

وهو نهج يجمع بين التعلم الأكاديمي والمشاركة في خدمة المجتمع بهدف بناء قيم المواطنة، حيث يدرك المتعلم أثر أفعاله مباشرة.

4. نظرية التحول (Mezirow, 2000)

التغيير الجذري يحدث حين يواجه المتعلم خبرة تهز افتراضاته المسبقة، فيعيد تعريف ذاته ودوره في الحياة.

إنّ هذه النظريات تتقاطع في فكرة محورية:

“السلوك لا يتغير بالكلام وحده، بل بخبرة حية متتابعة تلامس العقل والقلب والعمل معًا”

*ثانياً: لماذا الممارسة المكثّفة تحديدًا؟*
البرامج التقليدية غالبًا متقطعة، أسبوعية أو شهرية، مما يسمح بعودة الطالب إلى أنماطه القديمة قبل أن تتجذر القيمة.
أما التكثيف (برنامج يومي لمدة أسبوعين مثلاً) فيحقق:

العنصر أثره التربوي
التكرار اليومي يكوّن عادة جديدة قبل تلاشي الحافز
التتابع المنهجي يراكم المعنى تدريجيًا دون انقطاع
الارتباط العاطفي يجعل القيمة جزءًا من الهوية وليس مجرد معلومة
الخبرة المشتركة تقوي الانتماء للمجموعة وتدعم السلوك الإيجابي

لهذا يظهر الأثر واضحًا ومستدامًا، حتى دون متابعة مباشرة من المعلم بعد نهاية البرنامج.

*ثالثًا: مثال تطبيقي مختصر*
شريحة مستهدفة: طلاب الصف الأول الثانوي
طريقة الاختيار: مقياس مسؤولية مجتمعية مقنن (قبلي)
عدد المشاركين: 10–14 طالبًا
مدة البرنامج: 10–14 يومًا متواصلة
مكونات البرنامج:

المحور الأنشطة الهدف
معرفي لقاءات قصيرة من متخصصين + مناقشات بناء وعي واضح حول معنى المسؤولية
وجداني قصص – تأملات – مشاركة تجارب خلق ارتباط عاطفي بالقيمة
عملي ميداني تنظيف المسجد – خدمة الأسر المحتاجة – مبادرات الحي تحويل القيمة إلى سلوك فعلي يومي

النتيجة:

ارتفاع ملحوظ في درجات المقياس البعدي (وصل في بعض الحالات إلى +50 درجة).

ملاحظة المعلمين لتغيرات سلوكية دون معرفتهم المسبقة بوجود البرنامج (دليل أثر عميق ومستدام).

رابعًا: خطوات تطبيق النموذج في المدارس

1. اختيار الفئة المستهدفة بناءً على بيانات (وليس ترشيحًا عشوائيًا).

2. تحديد قيمة واحدة فقط (المسؤولية، الانتماء، التعاطف…)، وعدم تشتيت الطلاب بعدة قيم.

3. وضع برنامج مكثّف (يومي أو شبه يومي) لمدة لا تقل عن أسبوعين.

4. الربط بين المعرفة والوجدان والممارسة في كل يوم من البرنامج.

5. تضمين عنصر “التأمل”: وهو سر التحول السلوكي (جلسة 10–15 دقيقة يوميًا).

6. قياس قبلي وبعدي لتوثيق الأثر وإعادة تحسين التجربة.

7. تسليم الطالب “مشروع أثر” يستمر بعد البرنامج (ولو صغيرًا جدًا).

*خاتمة*

إنّ التعلم بالممارسة المكثّفة لا يهدف إلى مجرد تحسين سلوك وقتي، بل يسعى إلى تشكيل الإنسان عبر خبرة تربوية متوازنة تمس عقله وقلبه وفعله. وهذه المقاربة، التي تثبت نجاحها في المدارس والمراكز الشبابية والمبادرات المجتمعية، تمثل اليوم أحد أكثر الأساليب فاعلية في تحقيق أثر تربوي عميق ودائم.

“حين يعيش الطالب القيمة… تصبح جزءًا منه.
وهذا هو جوهر التربية” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى