تجارة الدماء.. يجب أن تتوقف!

تحدث المشكلات في هذه الحياة، وينشب الخلاف بين الناس، ويقع الخصام، وقد يتطور الأمر إلى الضرب، بل إلى القتل أحيانًا، سواء كان عمدًا أو خطأ. والقتل بغير حقٍّ جريمة عظيمة، وإثم كبير. فقد توعد الله تعالى من يقتل مؤمنًا عمدًا بعذاب جهنم خالدًا فيها، لما في هذا الجرم من اعتداء على النفس البشرية، ومساس بحق الإنسانية جمعاء.
وقد شرع الله القصاص لمن يرتكب هذه الجريمة، وأعطى أولياء الدم الحق في طلب القصاص، وهو حق مشروع، كما منحهم الخيار في العفو، طلبًا للأجر والثواب، مصداقًا لقوله تعالى:
( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ )
وقوله تعالى: “ومَنْ أحْيَاهَا فكأنّمَا أحْيَا النّاسَ جَمِيعًا”.
كما أتاح لهم قبول الدية الشرعية المحددة من ولي الأمر، وهذا يُعد فعلًا كريمًا، وتسامحًا محمودًا، يُشكر عليه من يختاره من أولياء الدم.
إلا أن ما نراه مؤخرًا من مطالبات بمبالغ مليونية خيالية، لا يندرج تحت أي من تلك الأطر المشروعة، فهي ليست عفوًا صادقًا ليُثابوا عليه، ولا هي دية شرعية يُشكرون على قبولها. بل إنها تجاوز خطير، يتنافى مع تعاليم الدين، والقيم، والمروءة. لقد تحولت – مع الأسف – إلى تجارة رخيصة بالدم، يتكسب منها البعض دون خجل.
والأدهى من ذلك أن هذه الأموال تُجمع من آخرين لا علاقة لهم بالقضية، لا من قريب ولا من بعيد. تُجبى منهم بالإلحاح والضغط، وتُدفع على مضض، باعتبارها صفقة بيع معلنة في وضح النهار، تشغل بها الجهات الرسمية وتستنزف موارد المجتمع بلا موجب.
ومن العدل، إن تم الاستجابة لمثل هذه المطالبات، أن تستوفي الدولة ضريبة على هذه “الصفقة”، تمامًا كما تُفرض الضرائب على عمليات البيع والشراء. بل إن الأصل ألا تُقبل مثل هذه المطالبات المليونية مستقبلًا، لأنها تمثل أسوأ صور الاستغلال، وتجارة بائسة لا تختلف كثيرًا عن صور التسوّل.
والأخطر من ذلك، أن هذه الأموال تُنتزع من أهل الخير والمحسنين الذين كان الأولى أن تصل تبرعاتهم للفقراء والمساكين والأيتام، وهم أحق الناس بالمساعدة والدعم.
وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حال من يسأل الناس أموالهم دون حاجة، وإنما ليزيد من ماله، فقال عليه الصلاة والسلام: “من سأل الناس أموالهم تكثّراً، فإنما يسأل جمراً، فليستقلّ أو ليستكثر”.
وهذا الحديث ينطبق تمامًا على من يُمارسون هذا الابتزاز المادي تحت غطاء العفو، وما أحوجهم إلى التذكير والتنبيه. فما يفعلونه بجهل يجب أن يُواجه بالوعي، وتصحيح المفاهيم، وتفعيل دور الجهات المختصة، حفاظًا على هيبة العدالة، وصونًا لكرامة الدم الإنساني.
وبالله التوفيق.