كتاب واصل

ليت الكبار لا يشيخون

د.خالد علي الغامدي اخصائي نفسي وخبير تربوي

ذات يوم، دخلنا مجلس القرية و سألني صديقٌ بلهجةٍ تحمل حنينًا للماضي: *”أين شيخونا وكبار القرية؟”* ثم أضاف وهو بنبرةٍ مختلفه وحزينه *”نحن الآن الكبار والشيوخ في القرية!”*  

لحظةٌ جعلتني أتوقف… نعم، لقد كبرنا دون أن نشعر. الأجيال التي كنّا ننظر إليها باحترامٍ وهيبة، رحلت تاركةً لنا المكان. صرنا نحن من يُشار إلينا بالأصابع، نحن من يُسأل عن أحوال القرية، ونحن من يُطلب رأيه في المشكلات. لكن أين ذهب أولئك العمالقة الذين ملأوا طفولتنا حكاياتٍ وحكمة؟ كنّا صغارًا، نرى الشيوخ عمالقةً بحجم الأشجار، أصحاب لحى بيضاء، وعصيٍّ تتوكأ عليها السنونو. كانوا يحكون لنا عن أيام “الزمن الجميل”، ونحن نسمع لهم بكلّ جوارحنا، وكأنهم يسردون أساطير من عالمٍ آخر. كنا نرى في عيونهم بحرًا من التجارب، وفي قلوبهم سعةً لا تنتهي.  

اليوم، أتجول داخل القرية لم يعدفيها إلا ذكرياتهم. رحلوا واحدًا تلو الآخر، تاركين فراغًا لا يملؤه شيء. صرنا نحن من يقف في المسجد ليُعلّم الصغار، ونحن من يُستشار في الأمور، ونحن من يقول: *”كنتُ أسمع جدي يقول…”*  

يالله كبرنا فجأة. لم نعد ذلك الجيل الصغير الذي يلهو في ممرات وأزقة القرية ، بل صرنا نعاني من آلام الظهر، وننسى الأسماء، ونتمسك بعاداتٍ يسميها الشباب “ايام الطيبن “. صرنا نردد: *”في زماننا…”*، تمامًا كما كان يفعل شيوخنا. لكن هل نحن مستعدون لأن نكون مثلهم؟ هل نملك نفس الحكمة؟ نفس الصبر؟ نفس القدرة على أن نكون سندًا للأجيال الجديدة؟  

كلنا نومن بالحياة والموت فالموت حقّ، لكن الأسوأ من الموت هو أن يعيش الكبير وحيدًا، مهملًا، لا أحد يزوره، ولا أحد يذكر فضله. الأسوأ أن يتحوّل إلى مجرد “عجوز” في عيون البعض، بدلًا من أن يكون كنزًا من الحب والحكمة.  

سيأتي يومٌ ونحن أيضًا سنكون ذكرى… سيذكرنا أحفادنا بكلمةٍ قلناها، أو بموقفٍ وقفناه. فهل نترك لهم إرثًا من الحب؟ أم أننا سنكون مجرد صورٍ في الهواتف، يُمرّر عليها بالإبهام بلا اكتراث؟  

اخيرا اقول لأبناءنا والأحفاد 

كبارنا.. نور البيوت 

هم الذين قضوا حياتهم في العطاء، يسبحون الله ليل نهار، ويقيمون الليل، ويصومون ويتصدقون. هم من زرعوا فينا القيم والأخلاق، ومن علمونا معنى الحب هم البركة في البيت . 

فالأجداد والآباء الكبار من في أعمارنا اليوم قد يعيشون في غربةٍ داخل بيوتهم، يشعرون أن الزمن قد تجاوزهم، وأن العالم لم يعد كما عهدوه. بعضهم لا يجد من يؤاكله، أو من يجلس معه ليستمع إلى ذكرياته. بعضهم ينام وحيدًا، ويستيقظ وحيدًا، ولا من يسأل عنه إلا قليلًا.  

البيت الذي يعيش فيه الأب أو الأم، أو الجد أو الجدة، هو بيتٌ مليء بالأمان. هم الفوانيس التي تنير دروبنا، والقلوب التي تدعو لنا في ظلام الليل. يقول المثل: *”البيت الذي يتواجد فيه والدك، آمن أكثر من بابٍ مقفل بأربعين قفل”*. فلنحرص على أن نكون خير سند لهم، ولنذكر دائمًا حديث النبي ﷺ: *”ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا”*. ربّي ارحم كبارنا، واجبر كسرهم، وارفع قدرهم، وأعنّا على برّهم حتى نلقاك.*

يقول الشاعر يحيى رياني:  

> *ليتَ الكبار بلا موتٍ ولا هرمِ*  

> *ولا مـشـيبٍ ولا حـزنٍ ولا ألـمِ*  

ليت الكبار لا يشيخون..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى