كتاب واصل

« لا باب… ومع ذلك طرقتُ »…!

«الله ألطف بعباده من أن يتركهم في الأماكن الخاطئة طويلاً، وحكيمٌ إلى حدّ أنه لا يكسر قلوبهم بل يوقظها، وحفيظٌ لا يضيع من عرف قدره وأحسن الظنّ به».

✍️ راضي غربي العنزي _ كاتب سعودي”

ستدرك مع الأيام، لا بوخزةٍ مفاجئة بل بوعيٍ ينمو بهدوء، أن هناك أماكن أنت أكبر من أن تتواجد بها بكاملك، وأن هناك أشخاصاً أنت كثيرٌ عليهم. ليس لأنك أعلى شأناً، ولا لأنك مختلف على نحوٍ متعالٍ، بل لأن الله حين خلق القلوب جعل لها مقاييس، وحين وزّع الأرواح جعل لبعضها سعةً لا تحتملها المساحات الضيّقة. ستفهم أن العطاء فضيلة، لكن الفضائل حين تُنفق بلا حكمة تتحوّل إلى استنزاف، وأن الحب إن أُهدي لمن لا يعرف وزنه صار عبئاً لا نعمة.

هذه الحقيقة لا تأتيك في صيغة شعار، بل في مواقف صغيرة تتراكم. في صمتك حين تتكلم كثيراً ولا يُسمع لك، في حضورك الكامل الذي يُقابل ببرودٍ جزئي، في جهدك الذي يذوب كأنه لم يكن. هناك من يستحق ربعك، وهناك من لا يحتمل إلا نصفك، وهناك من يكفيه جزءٌ بسيط من اهتمامك. أما كُلّك، بحضورك وصدقك وحرصك، فأنت كثيرٌ عليهم، وكثرة النور على عينٍ لم تعتده تُربكها لا لأنها تكره الضوء، بل لأنها لم تُدرَّب على احتماله.

وحين تصل إلى هذه القناعة، لن تتحوّل إلى قاسٍ ولا إلى منغلق، بل إلى أكثر رفقاً بنفسك. ستدرك أن الله لم يكلّفك بإرضاء الجميع، ولم يأمرك أن تكون متاحاً بلا حدود، بل دعاك إلى العدل والاتزان. قال الله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، والوسط هنا ليس فتوراً، بل حكمة ميزان، أن تعرف متى تعطي، ومتى تتوقف، ومتى تحفظ روحك كما تحفظ حقوق الآخرين. وفي الحديث الشريف: «إنَّ لِنَفْسِكَ عليكَ حقًّا»، وكأن النبوة تضع خطاً نبيلاً بين السخاء وإهدار الذات.

الحكماء عبر العصور لمسوا هذه الفكرة دون أن يعلّقوا عليها لافتات. سينيكا، الفيلسوف الروماني، كان يرى أن من يهب وقته لمن لا يقدّر الوقت يخسر عمره مرتين. ونيتشه، رغم حدّته، أشار إلى أن بعض العلاقات لا تجرحك مباشرة، لكنها تُقزّمك بصمت. وحتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بحكمته التي لا تشيخ، لمح إلى أن قيمة الإنسان فيما يحسن صونه لا فيما يبدّده، وكأن الفلسفة والإيمان يلتقيان عند معنى واحد: لا تُفرّط في نفسك باسم الفضيلة.

في قصة حديثة لا تحتاج إلى بطولة، شاب يعمل في فريقٍ تطوعي، يعطي من وقته وفكره وحضوره أكثر مما يُطلب. كان دائماً في المقدمة، يسبق الحاجة ويؤخر التعب. وحين مرض يوماً، لم يسأل عنه أحد. لم يغضب، لم يعاتب، فقط فهم. انسحب بهدوء، لا ضجيج فيه ولا شماتة. بعد أشهر، انضم إلى مبادرة أصغر، أقل صخباً وأكثر صدقاً. هناك وجد التقدير، لا مبالغاً فيه، بل حقيقياً. قال لاحقاً: لم أتغيّر، الذي تغيّر هو المكان. وكأن الله أراد أن يعلّمه درساً برفق، أن الانسحاب أحياناً حفظ، وأن النجاة قد تأتي في صورة خطوةٍ إلى الخلف.

حين تفهم هذا، تبدأ بتمجيد الله على حكمته. تسبّحه لأنك أدركت أن اللطف الإلهي لا يكون دائماً في البقاء، بل أحياناً في الإخراج. الله الواحد الأحد، العليم بخفايا القلوب، لم يخلقك عبثاً، ولم يتركك بلا إشارات. هو الذي يحفظك حين تختار نفسك دون أن تظلم غيرك، وهو الذي يبارك عطاؤك حين تمنحه لمن يعرف قدره. توحيده هنا ليس شعاراً، بل طمأنينة، أن ما فاتك لم يكن لك، وأن ما نجاك الله منه كان سيُثقلك.

وفي الخاتمة، ستبتسم وأنت تقول: لم أعد أبحث عن أماكن أُثبت فيها حجمي، بل عن أماكن تتّسع له. لم أعد أشرح نفسي طويلاً، ولا أعتذر عن كوني كما أنا. صرت أؤمن أن الحكمة ليست أن تكون كثيراً للجميع، بل أن تكون صادقاً مع نفسك، عادلاً في عطائك، مطمئناً إلى ربك. أما كُلّك، فاحتفظ به لمن يستحق، وامضِ خفيفاً، مؤمناً، ساخرَ الحكمة، واثقاً أن الله حين يبعدك عن موضعٍ ضاق بك، إنما يقودك إلى سعةٍ تليق بما أنت عليه .

● ابتسم الآن …فأنا أكتب لأجلك…ولتبسم ولتضئ…!

*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 479438
■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■
Radi1444@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى