كتاب واصل

راحة البال _ Mind Haven

 " حين يهدأ البال برحمة الله، يصبح العالم كله صامتًا ليسمع قلبك "

✍️ راضي غربي العنزي – كاتب سعودي:

راحة البال… كلمة صغيرة، لكنها أثقل من جبال، وأخف من نسمة، ومع ذلك يلهث خلفها البشر منذ الأزل. كل إنسان في هذا العصر يظن أن راحته تُقاس بما في يده، ويبحث عنها في المال، الممتلكات، الشهرة، السفر، المظاهر، أو حتى عدد الإعجابات على هاتفه. يسعى بكل قوته لكنه لا يعرف أن الراحة الحقيقة تبدأ من الداخل، من قلب يطمئن، من روح تتقبل ما لا تستطيع تغييره، ومن عقل يفهم أن القلق الزائد مجرد استنزاف بلا جدوى. كل من فهم هذا، تنفس الصعداء، لأنه اكتشف أن العالم بأسره يمكن أن ينهار حوله، لكنه قادر على الحفاظ على سلامه الداخلي مهما حدث.

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ (محمد: 2).

هذه الآية توضح أن الإيمان والعمل الصالح يصلح “البال” ويملأه بالطمأنينة، أي أن قلبك يصبح واحة هدوء وسط صخب الحياة، وكل محاولة للبحث عن الراحة في الخارج، مهما كانت فاخرة، ستبوء بالفشل إذا لم تنبت هذه البذرة بداخلك أولًا.

قال رسول الله ﷺ: «من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة» (رواه الترمذي).

هنا نفهم أن راحة البال ليست غياب المشكلات، بل إدراك أنك في أيدٍ حانية، وأن الله يجمع شملك حتى لو ظننت أن العالم كله مشتعل حولك. الإنسان الذي يفهم هذه الحقيقة يضحك قليلًا على ضيق الناس حوله، ويبتسم حين ينهار الآخرون تحت ضغوط لم يقصدها سوى نفسه.

لقد قال الفيلسوف سقراط: “راحة البال هي أن تكون راضيًا بما تملك، وأن تؤمن بأن ما يحدث لك هو خير لك.” وهو ما يجعل هذا المفهوم عالميًا وساخرًا في الوقت ذاته، لأنه يضع الإنسان في مواجهة مباشرة مع طموحه الزائد، مقارنة الآخرين المستمرة، وأوهام السيطرة على الحياة. أما الإمام الشافعي فقال: “راحة البال لا تُشترى بالمال، بل تُنال بالرضا.” ومن هنا نفهم أن البال هو معيار الإنسان لا ممتلكاته، وأن الأغنى حقًا هو من يملك قلبًا هادئًا، لا من يملك قصورًا.

وفي قصة صغيرة، يعيش حكيم بسيط في قرية هادئة حياة متواضعة. يسير إلى السوق يوميًا، يشتري حاجاته، ويعود. سأله أحدهم: “كيف تعيش هكذا بلا قلق؟” فأجاب مبتسمًا: “لأنني لا أرهق نفسي بما ليس في يدي، وأرضى بما قسمه الله لي.” القارئ الذي يسمع هذه القصة يشعر فورًا بالراحة وكأن عبئًا طويلًا أزيح عن صدره، لأنه رأى التجسيد الحقيقي للبال الهانئ في حياتنا المعاصرة.

في عالمنا اليوم، يكتب الناس اقتباسات عن الرضا على هواتفهم، بينما يختنقون يوميًا من ضغوط صغيرة وكبيرة، يلتقطون الصور ليبتسموا، ثم يغلقون الشاشة ليعودوا إلى القلق. يشتري البعض شواحن أكثر من الكتب، ويحدث حالة “أنا بخير” وهو يلهث في أعنف معاركه الداخلية. كل شيء يدعوك للركض، من السوق إلى الإعلام، من الوظيفة إلى التراكمات الاجتماعية، ومع ذلك لا أحد يصل إلى الهدف إلا من عرف أن راحة البال تبدأ حين تتوقف عن الركض وراء كل شيء خارجك، وتركز على قلبك وروحك.

تخيل إنسانًا قادرًا أن ينظر إلى فوضى العالم من حوله ويبتسم، ليس لأنه بلا مشاكل، بل لأنه اكتشف أن البال الحقيقي لا يحتاج إلى إذن من أحد، ولا يعتمد على تصرفات الآخرين، ولا يتأثر بكل العواصف الخارجية. هذا الإنسان يعيش حياة أخف، ينام مطمئنًا، يتحدث بسخرية لطيفة عن ما يرهق الآخرين، ويستمتع بلحظة هدوء واحدة أكثر من ساعة استعراض.

الرفاهية المادية، الشهرة، السيارات الفاخرة، المظاهر، جميعها زينة للحياة، لكنها ليست البال. كل محاولة لملء الفراغ الداخلي بالخارج مجرد سراب، والمال لن يشتري لك هدوء القلب. كل من تعلم أن الرضا مع الله هو المفتاح، سيجد نفسه محاطًا بسعادة خفية، يبتسم فيها حين يرى الآخرين يلهثون خلف سرابهم الخاص.

راحة البال الحقيقية هي أن تتوقف عن تمثيل دور البطل في معركة لم تطلبها، أن تعطي نفسك حق السكينة والطمأنينة، وأن تتوقف عن القلق على ما لا تستطيع تغييره. أن تغلق هاتفك، تترك ما لا يعنيك، وتغفر لمن يسيء لك، لأن هذا وحده يحررك من كل وزن غير ضروري. أن تعرف أن الدنيا ستأتيك كما شاء الله، وأن قلبك هو الملاذ الأخير الذي لا يُسلب منك إلا بإرادتك.

فلنحرص على أن نحمل راحة البال معنا أينما ذهبنا، فهي الجائزة الكبرى التي لا تُشترى، ولا تُفقد، وإنما تُكتسب بالصبر، والقناعة، والإيمان. كل شيء حولنا قد ينهار، كل ضوضاء العالم قد تتصاعد، لكن القلب الذي عرف أن السلام الداخلي هو الثروة الحقيقية سيبقى مرتاحًا. ولنفسك، أيها القارئ، أقول: توقف للحظة، تنفس بعمق، ابتسم، واعلم أن البال الذي تنشده موجود بداخلك منذ البداية.

● إبتسم الآن ريح بالك …..فأنا هنا أكتب لأجلك ..!

*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 497438

■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■

Radi1444@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى