
✍🏻 : فهد الرياحي
حين يتبدل الطريق فجأة أمامك، وتجد نفسك تائهاً بين صدمة فقد موجعة، وخسارة عمل مربكة، وديونٍ تراكمت عليك بغتة… تُدفع دفعاً إلى دوامة سقوط قدريّ لم تختاره. وتسأل نفسك وأنت منهك: أين أنا؟ إلى أين أتجه؟ وما الذي ينتظرني؟ ويبدو حالك كحال مسافرٍ انطفأت أمامه علامات الطريق، فوقف في منتصف الظلام لا يعرف من أين يبدأ ولا إلى أين يذهب.
لحظات السقوط لا تراعي توقيتاً ولا مشاعر . تأتي كما تأتي العواصف: بلا موعد، بلا رحمة، وبلا مقدمات. السقوط ليس حدثاً تختاره، ولا مصيراً تستأذن في حدوثه . إنه قدر كُتب كما كُتب على غيرك. لكن وسط هذا كله… يبقى قرار الوقوف لك وحدك. .
وبتوفيقٍ من الله ومعونته ولطفه . يجبر المنكسِر، ويبعث في القلب نوراً ، وأملاً لا ينقطع في وسط زحمة هذه الدوامة، يرسل الله إشارات صغيرة تذكّرك بأن النهوض ما زال ممكناً.
رجل مهموم فقد عمله وتعثرت أحواله، وكان يقف في الحياة كمن يخوض معركة لا يملك رفاهية الانسحاب منها. جلس ليلةً على رصيف ضايق، متعباً، فرأى طفلاً يسقط عن دراجته ثم يقف وهو يقول: «الوقوع مو نهاية… النهاية إذا ما وقفت.»
فابتسم الرجل ابتسامة خفيفة، كأن تلك الكلمات التقطت قلبه من عمق التعب وأيقظت فيه رسالة تقول له: السقوط ليس آخر القصة… ما دمت قادراً على الوقوف.
إذ لم يعد يرى السقوط نهاية طريق . بل بداية مسار جديد يتشكّل فيه من الداخل فنهض رغم الإنهاك وتقدّم رغم الثقل، ومضى وهو يدرك أن الوقوف استمراراً للقوة .
وهنا يعلّمنا القرآن معنى هذه الوقفة قبل كل شيء، حين قال تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾
لم يقل: “بعد العسر”… بل “معه”. أي أن بذرة الوقوف تُخلق داخل لحظة السقوط نفسها.
ثم تأتي السنة لتؤكد هذا المبدأ، كما قال النبي ﷺ:
«احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز.»
ومع كل خطوة تتقدم بها نحو الأمام، تفهم حقيقة لا يتعلمها إلا من ذاق مرارة الانكسار : أن الإنسان حين يعود بعد سقوطه… لا يعود كما كان. يعود أعمق فهماً، أقوى قلباً وأوضح بصيرة .
توقّف بعد ألم؟ هذه شجاعة.
توقّف بعد خذلان؟ هذه قوة.
توقّف بعد خسارة؟ هذا نضج.
توقّف بعد انهيار؟ هذا انتصار.
لأنك حين تقف، لا تقف على قدميك فقط… بل تقف على إرادتك، ووعيـك، ورغبتك بالحياة.
القدر يضعك في الطريق … وأنت تختار كيف تكمله قدرك قد يجعلك تمر بتجارب لم تطلبها، وطرق لم تخطط لها. قد يضعك أمام خذلان، خسارة، أو وجع لم يخطر ببالك.
لكن الوقوف بعد هذه التجارب… قرارك أنت.
لا أحد يقف مكانك، ولا أحد ينهض عنك.
قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ وهذا يعني أن التغيير يبدأ من الداخل: من قرار … لا من ظرف .. ومن نهوض… لا من انتظار. القدر قد يرميك في طرق لم تتوقعها، يختبر صبرك، يكسر خططك، ويغلق أبواباً كنت تراها ثابتة. وهنا لا يكون الامتحان في السقوط… بل في شكل الوقوف بعده.
ثم يأتي ميزان الحكمة من كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه .. «لا يُعرف الرجل عند الرخاء، إنما يُعرف عند الشدة.»وهكذا نفهم أن السقوط بطاقة اختبار… والوقوف بطاقة تعريف . السقوط لحظة… والوقوف مسار .. مهما طال السقوط… يظل لحظة. أما الوقوف فهو الطريق الذي يُعيد تشكيلك من الداخل.
قال ابن القيم رحمه الله:
«الابتلاء يخرج العبودية من العبد في أحسن صورة.»
وقال جلال الدين الرومي:
«حيثما تبدأ الجروح… هناك يبدأ النور.» فالألم الذي أسقطك اليوم… هو نفسه الذي سيقيمك غداً.
القوة الحقيقية لا تُولد في لحظة الألم…بل في اللحظة التي تليها مباشرة . في تلك الثواني الصامتة التي يقف فيها القلب أمام خيارين: أن تبقى حيث أسقطك الوجع… أو أن تنهض رغم ثقل كل شيء. هناك فقط تُقاس نفسك.
وقد لخّص النبي ﷺ هذا المعنى العظيم حين قال:
«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير… احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز.» فالوقوف بعد السقوط قوة… والمؤمن القوي يحبه الله .
الخاتمة
السقوط قدرٌ يسقط الجميع… لكن الوقوف امتياز لا يُمنح إلا لمن قرّر أن يقهر مصيره بدل أن ينحني له.
وفي الحقيقة… لا أحد ينهض من حطامه بقوة يده، بل بمددٍ خفيّ من الله يرفع من يشاء في اللحظة التي يظن فيها أنه انتهى. فكل وقوفٍ بعد سقوط هو آية من آيات رحمته، وكل صمودٍ بعد انكسار هو فضلٌ يسوقه الله لعبده حين تضيق به الدنيا.
ولذلك: انهض … لأن الله يحب المؤمن القوي. وثق أن من جمعك بعد التبعثر، ولملمك بعد الانهيار…
لن يتركك حتى يبلغك مقاماً لم تكن لتصل إليه… لو لم تصبر وتحتسب . .



