التفويض الأخير… حين تسلم قلبك لله
«حين تفوّض أمرك لله… تكتشف أن الله أعلم بمصلحتك من كل تلك الخطط التي سهرت عليها بلا جدوى»
✍️ راضي غربي العنزي – كاتب سعودي
تخيل أنك واقف وسط دوامة من الأحداث والضوضاء تتهاوى من حولك، كل شيء يصرخ وكل القوى تبدو متنافرة، وأنت ساكن، هادئ، مطمئن، قلبك في أمان وروحك مستقرة، لأنك تعرف أن من خلق الكون، الله المسيطر بكل شيء، يدير كل دقيقة في حياتك بحكمة لم نعرفها نحن البشر، وبسعة لا تنتهي. هنا يولد التفويض، هنا يتجسد التسليم، هنا تشعر أن العالم كله صامت إلا قلبك الذي يعرف الحقيقة، أن كل شيء بيد الله وأن أي محاولة منا لتجاوز حكمته مضيعة للجهد، بينما من يسلم نفسه لله يعيش الحرية الحقيقية، الكون لا ينهار، الزمان لا يتوقف، والظروف لا تتحكم، كل شيء تحت يد الله الحكيم، كل شيء في مسار دقيق وكل شيء يلتقي عند حكمته المطلقة.
هل شعرت يومًا بأن كل شيء حولك يتهاوى بينما في داخلك شيء ثابت، كأن في قلب إعصار لكن قلبك هادئ وثابت ومطمئن، يعرف أن هناك قوة أعظم تتحكم بكل شيء… الله؟ ذاك هو التسليم، أن تفعل ما تستطيع ثم تفوّض الأمر لله، موقنًا أن النتائج ستأتي في الوقت الذي يراه الله مناسبًا. التسليم ليس هروبًا من الواقع ولا استسلامًا جبانًا، بل شجاعة ذكية جدًا، شجاعة من يدرك أن الله أعلم من أي خطة وضعناها نحن، «التسليم لله… هو أن تتوقف عن محاولة التحكم فيما لا يملك الإنسان السيطرة عليه»، كما قال الحكماء. نحن في زمن «التحكم الكامل»، كل شيء يجب أن يكون جاهزًا الآن، وظيفة خلال أسبوع، حب جاهز بنقرة، مستقبل محدد بالخطط، وسعادة تُشحن كطرود بريدية، ثم إذا تأخر شيء خمس دقائق نُصاب بالهلع، لماذا؟ لماذا الآن؟ ولماذا أنا بالتحديد؟ ذلك لأننا ننسى شيئًا بسيطًا، أن الله يدير كل شيء بحكمة لا يساويها أي قلق أو خطة بشرية.
﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (غافر: 44) طمأنينة عظيمة من آية واحدة فقط! ويقول النبي ﷺ: «واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك» (الترمذي)، أعمق دروس التفويض في جملة واحدة. • ابن عطاء الله السكندري قال: «ارتحْ من التدبير، فما قام به غيرُك عنك لا تقم به أنت لنفسك»، يا لها من سخرية لطيفة منّا نحن الذين نجهد أنفسنا في شيء قد فرغ الله منه.
شاب كان يسعى لوظيفة أحلامه، يراجع بريده كل دقيقتين حتى صار البريد يراجعه هو، وفي يوم جلس بهدوء وقال: «يا رب… إن كانت خيرًا فسهّلها»، وذهب يتمشى ويأكل «آيسكريم» بطعم الفستق، وفي تلك اللحظة رن الهاتف: «مبروك تم قبولك!» ضحك وقال: «يا الله… كم أرهقت نفسي قبل أن أستريح بك!»، التسليم لا يؤخر الخير بل يؤخر التوتر فقط.
سقراط قال: «سر السعادة هو عدم القلق بشأن أمور خارجة عن إرادتك» ومارك توين قال: «قلقي من المستقبل أفسد عليّ الحاضر»، نعم، لأن المستقبل بيد الله والقلق بيدنا نحن الحمقى. التفويض لله لا يعني أن تُهمِل نفسك، بل يعني أن تبذل أقصى جهد ثم تطمئن أن الباقي بيد من لا يخطئ، حين تفوّض، تضحك من نفسك كم كنت تعتقد أنك تتحكم، الله المسيطر وحده يصنع المعجزات ويحوّل كل شيء في الوقت المناسب.
التأخير من الله أحيانًا أجمل من الإنجاز المبكر، التأخير يحميك من أشياء لم تكن مستعدًا لها ويجعلك تتلقى ما لم تتوقعه، حين تسلم أمرَك لله تشعر أن قلبك أخف ونفسك أهدأ. الناس اليوم يسخرون من من يسلّم، لكن الحقيقة، الذين سلّموا وصلوا، والذين قلقوا تعبوا، والذين توكلوا فازوا. نحن نلهث خلف المستقبل بينما الخير ينتظر فقط أن نطمئن،! التفويض ليس هروبًا بل إعلان واثق أن الله المسيطر هو من يجعل كل شيء في مكانه الصحيح.
حين تفوّض أمرك لله وتسلّم قلبك له بالكامل، تجد نفسك في هدوء عميق، حيث تتساقط كل المخاوف ويصبح العالم ناعمًا تحت قدميك. التسليم والتفويض ليسا هروبًا، بل رحلة نحو رؤية الكون برقة الحكمة الإلهية، كل حدث، كل لقاء، كل تأخير جزء من تدبير الله الذي لا يمكن لعقلنا المحدود فهمه بالكامل. أحيانًا تبتسم بلا سبب، أحيانًا تشعر بالدهشة أمام قدرة الله المطلقة، كما لو أن الرياح تتوقف لتستمع لصوت قلبك، والسماء تفتح نافذة من نور، والوقت نفسه يهمس: «أنا معك». وفي هذا السلام تكتشف سر الحياة، أن كل شيء يتحرك بتنسيق رائع، وأن الله المسيطر وحده هو الذي يجعل كل شيء جميلًا، حتى الصعاب، حتى الانتظار، حتى اللحظة التي كنت تراها فارغة. هنا، فقط، يصبح التفويض والتسليم حقيقة تمنح قلبك الاطمئنان وروحك السلام وعقلك التأمل في عظمة من خلق كل شيء وأحكمه.
● أبتسم …. فهناك من يحبك ويكتب لأجلك .!
*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 497438
■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■



