حين يعفو الكبار… The Grace of the Great
لأن الله حين يُلهم عبده العفو، يُعطيه من نوره ما يعينه على أن يرى الضعف بعين الرحمة، لا بعين الحساب
✍️ راضي غربي العنزي – كاتب سعودي
في زمنٍ تتسابق فيه الأيدي على الأخذ، وتندر فيه النفوس التي تعطي، يظلّ المتسامحون كالأوتار الخفية التي تحفظ توازن هذا العالم. إنهم لا يعيشون ليُسجلوا انتصارات، بل ليعيدوا إلى القلوب معناها النقي: أن الرحمة لا تَضعف، وأن العفو لا يُهين، وأن من عرف الله حقًا أدرك أن السموّ لا يكون إلا حين تُغلب العدالة بالعطف.
المتسامح لا يُقاس بكمّ ما ترك من حق، بل بعمق ما ترك من أثر. هو ذاك الذي يملك القدرة على أن يُطالب، فيختار أن يُعفي. يرى المعسر فيقول: “عسى الله أن يُفرّج عنه كما فرّج عني.” يرى المتعفف فيخجل أن يضيّق عليه، فيتذكر قول الله تعالى: «وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ، وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ» [البقرة: 280].
آيةٌ تشبه اليد الحانية على كتف الإنسان، تُذكّره أن العطاء في الشدة ليس خسارة، بل استثمار في رضا الله.
كان النبي ﷺ أرحم الناس بالضعفاء، لا ينسى حاجاتهم ولا يُثقل عليهم، وقال في الحديث الشريف: «من أنظر معسرًا أو وضع له، أظلّه الله في ظلّه يوم لا ظل إلا ظلّه».
ما أعظم هذا الوعد، وما أوسع هذه الرحمة! يوم القيامة، حين تشتد الشمس ويبحث الناس عن ظلٍّ واحد، سيكون أولئك الذين سامحوا وأمهلوا وأعفوا هم المكرَّمون تحت ظلٍّ لا يعرف الزوال.
العفو عن المعسرين ليس مجرد سلوكٍ اجتماعي، بل مقامٌ روحيّ رفيع. إنه إعلانٌ صامت أن المال وسيلة، لا غاية، وأن القلوب أكبر من الأرصدة. كم من معسرٍ أُرهق قلبه بالديون، فجاء من يسامحه فبكى لا لأنه تخلّص من دين، بل لأنه رأى وجه الله في تصرف بشر.
قال الحكيم الصيني كونفوشيوس: “الرحمة ليست ضعفًا، بل بصيرة ترى في عجز الآخرين امتحانًا لقوتنا نحن.”
وقال الفيلسوف إيمانويل كانت: “ليس الكرم أن تعطي ما يزيد عن حاجتك، بل أن تعفو عمّن لا يملك أن يردّ.”
وهذا هو جوهر التسامح الذي يجعل الإنسان أوسع من حدود ذاته. فالمتسامح لا يعيش ليقيس الربح والخسارة، بل ليشكر أنه قادر على الاختيار. يترك الله بين يديه فرصة أن يكون ظلًا من رحمته، فإذا سامح معسرًا أو تجاوز عن فقيرٍ أو عفا عن ضعيف، كتب الله له في ميزانه نورًا يُضيء ظلمة الموقف يوم الحساب.
العفو لا يُغيّر الآخرين بالضرورة، لكنه يُغيّرك أنت. يجعلك ترى أن اليسر ليس في وفرة المال، بل في سعة الصدر. أن الغنى ليس في الجيب، بل في طمأنينة الروح. أنك حين تترك حقّك ابتغاء وجه الله، لا تُنقص من رزقك شيئًا، بل تزيده بركةً ورضا.
وقد قال بعض الحكماء: “من عفا عن فقيرٍ معسر، جاد على نفسه بالراحة قبل أن يجود على غيره بالعفو.”
كم من صدورٍ امتلأت قسوةً حين رأت العثرات بعين المحاسبة لا بعين الرحمة، وكم من قلوبٍ طابت حين تذكرت أن الله يُجازي بالإحسان إحسانًا، وبالعفو عتقًا من الغلّ والهمّ.
التسامح لا يُطلب من الأغنياء وحدهم، بل من كل قلبٍ قادر على أن يرحم. قد تملك كلمة شكرٍ تعيد الحياة إلى قلبٍ مكسور، أو صمتًا يغفر لمن أخطأ، أو نظرة عطفٍ لوجهٍ أرهقته الأيام. كلها وجوهٌ للعفو لا تُدركها الجداول الحسابية، لكنها تكتب في ميزانٍ لا يَفنى.
العفو عن الضعيف والمتعفف هو فنّ من فنون الإنسانية العليا، لا يقدر عليه إلا من استغنى بالله عن كل ما سواه. ذلك لأنّ من ذاق عون الله في عسره، لا يستطيع أن يقسو على من ضاق حاله. ومن شعر أن الله يسّر له رزقًا بعد شدة، يستحي أن يُطالب من لا يجد.
وأيُّ أجرٍ أعظم من أن يكون جزاؤك “على الله”؟ لم يقل سبحانه: أجره في الجنة فحسب، بل عليه، أي تولّاه بنفسه، وكأن الله يقول: “أنا أكفيك عن كل حساب.” قال العلماء في تفسيرها: “من عفا لله، أكرمه الله بكرامةٍ لا يطلع عليها أحد، فقد يُدخله الجنة بغير حساب، أو يبدّل إساءته حسناتٍ في الآخرة.” ذلك الأجر لا يُقاس بالذهب، بل يُقاس بالطمأنينة التي تسكن القلب منذ لحظة العفو.
في النهاية، ليس التسامح شعارًا اجتماعيًا، بل طريقٌ من ضوءٍ يقود الإنسان نحو إنسانيته. من سامح محتاجًا أو تجاوز عن فقيرٍ أو أمهل ضعيفًا، لم يفعل ذلك لأنه لا يعرف الحقوق، بل لأنه يعرف الله أكثر. ومن عرف الله، لم يعد يرى الدنيا ميدان صراع، بل مدرسة رحمة.
العفو عن المعسرين والمتعففين لا يغيّر موازين المال، لكنه يغيّر موازين القلوب. ومن تجاوز، تجاوزت به رحمة الله مقاماتٍ لم يحلم بها.
فيا من تستطيع أن تعفو، افعل؛ لعلّ الله يجعل عفوك سببًا لعفوه عنك، ويكتب لك من الأجر ما لا يُقاس، لا جنةً فقط، بل جنّةً وطمأنينة… من غير حساب ولا عقاب.
● من هنا أشهد الله سبحانه وتعالى بنهاية هذه المقالة اني عفوت وتجاوزت عن معسر”في بالي” ماطلني سنين ..ابتغي بهذا العفو والتجاوز فقط وجه الله الكريم لاسواه ..اللهم فاشهد.
● والآن أبتسم وسامح واعفو …فأنا أكتب لأجلك…!
*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 497438
■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■
Radi1444@hotmail.com



