لا تفاوض المستقبل …!
“الفوضى ليست نهاية الطريق… بل بداية ترتيبٍ لم تكن تجرؤ عليه.”
✍️ راضي غربي العنزي – كاتب سعودي
يُقال إن أكثر الناس تعبًا هم أولئك الذين يفكرون أكثر مما يعيشون. يمضون يومهم في معركةٍ مع الغد، ويسهرون ليلهم وهم يفاوضون المستقبل كأنهم يملكون مفاتيحه. هؤلاء لا ينامون لأن عقولهم لا تعرف زرّ الإيقاف، ولا يهدأون لأنهم يظنون أن الهدوء نوعٌ من التواكل! نحن جيل يعيش في زمنٍ سريعٍ حدّ الإنهاك، لكنه يُرهق النفوس قبل أن يُرهق الأجساد. الآباء يفكرون في الأبناء قبل أن يكبروا، وفي الغد قبل أن يولد، وفي المشكلات قبل أن توجد. فوضى فكرية تشبه ازدحام طريق بلا إشارات مرور، الكل يريد الوصول أولًا، فينتهي الجميع إلى اللاشيء.
القلق من المستقبل ليس جديدًا، لكنه اليوم أصبح هواية جماعية. قال الحسن البصري رحمه الله: “يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يومك ذهب بعضك.” ومع ذلك، نُضَيِّع اليوم ونحن نحاسب الغد على ذنبٍ لم يرتكبه بعد. العلماء الكبار حين تحدثوا عن الانشغال بالمستقبل والمصائب قبل وقوعها، أجمعوا أنه من وساوس الشيطان وضعف التوكل. قال ابن القيم رحمه الله: “من شغل قلبه بالهموم المستقبلية، حُرم لذة الحاضر وبركة التوكل.” والحل؟ أن تدرك أن المستقبل لا يُصنع بالقلق بل بالفعل، وأن التفكير لا يصبح علاجًا إلا إذا كان مقرونًا بعمل. أما التفكير المفرط، فهو كمن يحرث في البحر… يتعب ولا يحصد شيئًا.
قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ (سورة الطلاق: 2–3)
> ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾ (سورة نوح: 10–12)
آيتان تختصران فلسفة الطمأنينة كلها: اتقِ الله، وتوكل عليه، واستغفره، فكل رزقك محفوظ بقدرته وحكمته. ليس المطلوب أن تتوقف عن التفكير، بل أن تروّضه؛ اجعل التفكير وسيلةً للاتزان، لا سجنًا من الأسئلة لا يفتح بابه أحد.
من أقوال الحكماء: من رتب أفكاره، رتب حياته. العقل بلا إيمان، كسفينة بلا بوصلة. ويقول المثل الشعبي: “اللي يحسب حساب الغيم، ما يفرح بالشمس.”
أما وصفة الطمأنينة التي دلّ عليها العلماء، فهي في بساطتها أعمق من كل وصفة نفسية حديثة: الصلاة في وقتها: أعظم نظام للفوضى، توقيت سماوي يعيد ضبط ساعات القلب. الاستغفار الكثير: كما جاء في الآية السابقة من نوح: “فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارًا…” الانشغال باليوم الحاضر: فقد كان ابن باز رحمه الله يقول: “ابدأ يومك وكأنك الوحيد في العالم، وأنجز فيه ما تستطيع.” الرضا بالقضاء: لأن الرضا يُطفئ الحرائق التي تشعلها الظنون. تقليل المقارنات: فالمقارنة ليست حافزًا، بل معول هدم، والإنسان لا يرى سوى ما فقد.
يا صديقي، ليست الحياة فوضى كما تظن، هي فقط تختبر ترتيبك الداخلي. إن أصلحت الداخل، استقام الخارج. وإن أوقفت ضجيج رأسك، ستهدأ أصوات العالم من حولك. فلا تفكر كثيرًا في الغد، عش يومك، وابتسم، وقل كما قال أحد العارفين: “كل ما يأتي من الله جميل، وإن غاب جماله عن عينك الآن.”
الحياة لا تنتقم منك، بل تعيد ترتيبك. تربكك لتوقظك، وتؤلمك لتطهّرك، وتفوضك لتذكّرك أنك لست وحدك. فاجعل فوضاك طريقًا إلى الوعي، لا مبررًا للانهيار. الحياة ليست معركة ضد الفوضى، بل درس في فن التوازن. كن عاقلًا دون أن تفقد إيمانك، وخائفًا دون أن تفقد رجاءك، ومفكرًا دون أن تنسى أن التدبير بيد الله وحده.
*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 497438
_____________________________________________
Radi1444@hotmail.com