كتاب واصل

هايبرثيميسيا… أسطورة الذاكرة التي أكلت أصحابها

"أيها القارئ… حين يرفض الماضي أن يموت"

بقلم/ راضي غربي العنزي – كاتب سعودي

الذاكرة سلاح ذو حدين؛ فهي تحفظ جوهرنا، لكنها أحيانًا تتحول إلى عبء ثقيل لا يترك مهربًا. هذه هي متلازمة الهايبرثيميسيا؛ حالة نادرة تجعل الإنسان يعيش كل تفاصيل حياته كما لو كانت تحدث الآن. كل لون، كل كلمة، كل لحظة—لا تُنسى ولا تهدأ.

حين يصبح الماضي حاضرًا دائمًا، تتحول الحياة إلى فيلم لا نهاية له. الضحكات تتكرر، الدموع تتجدد، والحب والخيانة يسيران جنبًا إلى جنب في مسرحية لا تعرف توقفًا.

الهايبرثيميسيا لا تعرف الانتقاء. كل شيء حيّ أمام صاحبها، التوافه كما العظائم، اللحظات الصغيرة كما الكبيرة. وهنا نفهم سرّ النسيان، تلك الرحمة التي منحها الله للبشر، لنستمر في الحياة بلا انهيار.

في تراثنا الإسلامي، عرفنا رجالًا أوتوا ذاكرة مذهلة مثل البخاري ومسلم، حفظوا آلاف الأحاديث بأمانة ووعي. ذاكرتهم كانت أداة في خدمة العلم والدين. أما صاحب الهايبرثيميسيا، فذاكرته هي التي تملكه، لا يعرف الرحمة، لا يسمح بالانتقاء، يأكل كل شيء بلا هوادة.

قال الله تعالى:

“وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ” [فاطر: 19]

وفي الحديث الشريف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“من لا يغفر للناس لا يغفر الله له” [رواه مسلم]

توضح الآية والحديث أن البصيرة والتسامح والنسيان جزء أساسي من توازن الإنسان النفسي والروحي. فكما أن الله يغفر لنا، علينا نحن أن نمنح أنفسنا رحمة النسيان لنعيش بسلام.

وعن الشيخ الدكتور عبدالسلام الشويعر، فقد تحدث في مقطع مثير عن متلازمة الهايبرثيميسيا، موضحًا كيف يمتلك بعض الأشخاص ذاكرة قوية جدًا لا تسمح لهم بنسيان أي شيء. يمكنكم مشاهدة المقطع هنا:

https://vt.tiktok.com/ZSDpm7TD9/

متلازمة الهايبرثيميسيا – الشيخ عبدالسلام الشويعر

تخيل لو لم ننسَ، كيف كنا سنغفر لأنفسنا؟ كيف كنا سنتجاوز الخيبات؟ النسيان ليس ضعفًا بل نعمة من الله، الممحاة التي تحفظ توازننا، الرحمة التي تجعلنا بشرًا قادرين على النهوض بعد كل سقوط.

متلازمة الهايبرثيميسيا ليست مجرد حالة طبية، بل أسطورة إنسانية تقول لنا: ليس كل ما نظنه كمالًا هو كمال، وأعظم الهدايا ليست أن نتذكر كل شيء، بل أن ننسى ما يجب أن يُنسى.

ولكن…

استعد، أيها القارئ… رأسك أصبح مسرحًا لكل ما عشته، كل كلمة، كل لمسة، كل همسة. الهايبرثيميسيا لا تهدأ، لا تعرف الرحمة، تضحك في وجهك، تعيد لك مشاهد لم تختَرها، تحيل كل تفاصيل حياتك إلى فيلم طويل لا نهاية له. الضحكات القديمة تصبح صراخًا، الأخطاء الصغيرة تتحول إلى لوحات على جدران عقلك، والذكريات الطريفة تتحول إلى مفاجآت مرعبة. كل شيء حيّ، كل شيء حاضر، وكل شيء يصارعك بلا هوادة.

لكن في هذه الفوضى العبقرية، هناك رحمة… رحمة الله بنا، رحمة الله بخلقه، ورحمته بالإنسان. فالنفس البشرية مهما ابتليت، هناك دائمًا فرصة للتخفيف، للتسامح، للابتسامة، وللقبول. الله منحنا نعمة النسيان، منحنا القدرة على الغفران، منحنا فرصة لإعادة ترتيب حياتنا وسط كل هذا الجنون الذهني. حتى في أعتى حالات الهايبرثيميسيا، هناك نور الرحمة يلوح لنا، يذكرنا أننا بشر، وأن الله أرحم الراحمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى