| “عمق بحرٍ لم يصله بشر” |
"رحلة مواجهة : الجهل وكشف «جوهر المعرفة» الغوص في صمت الأعماق ليولد الضوء في قلب الظلام "

✍️ : فهدالرياحي
حين يفتح العمق كتابه، تبدأ رحلة مواجهة الجهل، واكتشاف “جوهر المعرفة” في أعماق لا يصلها الضوء. هناك، في صمت البحر الذي يبتلع الضوء ويخنق الصوت، تختبئ أسرار لا تُرى، ولا يُسمع لها أثر.
أعماق لا يجرؤ على اقتحامها سوى من امتلك قلباً يقيناً، وعقلاً واعياً، وبصيرة تصنع الضوء من العدم. هناك، في هذا السكون المدوي، يُكشف “جوهر مكنوز ” محسوس، لا يُقاس بالعين ولا باليد…
لم تكن رحلتي مغامرة عابرة ..! ولا غرور غواص يختبر حدود قدرته . كانت” مواجهة حقيقية “منذ اللحظة التي وقفت فيها على الشاطئ الصخري، والبحر أمامي، أمواجه تضرب الصخور بقوة كأنها حاجز، والبحر من خلفها يتلاطم .
خاطبته: “مهلاً أيها البحر… أنا لست غريباً. غصت في أعماقك كثيراً، وكنزت من لؤلؤك ومرجانك…”
ارتفع موجة ثايراً لكني نظرت إليه بقلب لا يعرف التراجع، ولسان حالي يقول: “لم أغص باحثاً، ولا خائفاً، ولا طامعاً… أنا الغارق الذي لم يعد يبحث عن نجاة.”
ربطت حزام الغوص بعزم، وغصت في أعماق المعرفة لاكتشاف “جوهر الحقيقة .. ونور البصيرة ” وما إن اخترقت السطح، حتى تغيّر كل شيء . صار العالم صمتاً ثقيلاً، والضوء يتكسر حولي مثل زجاج متناثر، والعمق يفتح فمه بلا قاع.
لكن البحر لا يترك الداخل إليه بلا اختبار. دخلت “دوامة قوية” صارعت تيارها القوي، وما إن نجوت من قبضتها حتى بدأ جهاز الغوص ينذر بصوت عالٍ، ومؤشرات الخطر تتوهج باللون الأحمر… تحذيرات بالصعود، ” تنذر بعمق قاتل ” ضغط مرتفع …تحذيرات بالصعود .
لكني تجاهلتها، اطفأت التحذيرات وواصلت الغوص.مخترق الأعماق ” قرار مجنون… لكنه محسوب” .
غصت أعمق، حتى بلغت مكاناً لا يصل إليه “سوى الخيال الواسع ” نقطة لا يجرؤ عليها الضوء، ولا يصلها الصوت. وإذا بي أمام “ركام سفينة ” محطمة منذ عصور بعيدة، صواريها كرموز صامتة، ونوافذها تضئ وكأنها ضوء خارق من تحت ركام السفينة. دخلت أبوابها المفتوحة، وهربت الأسماك الصغيرة، وسط هدوء تتردد فيه أصوات خشخشة المعدن القديم.
اتجهت لمصدر النور وفجأة، بين الركام، لمحت “خزانة صدئة ” مختبئة خلف أعشاب ميتة، ” تحرسها صمت الأعماق .. وثلاثة حراس صامتون” .
الحارس الأول: صخور حادة كأنها أنياب الزمن، تقف ككتف جبل، نظر إليّ وسأل: “هل تبحث عن ” جوهر الحقيقة” أم “جواهر نفيسة” .. ؟
الحارس الثاني: دومات صغيرة تلتف حول قدمي، بلا صوت، تسأل: “هل تبحث عن وهم أم عن حقيقة ..؟”
الحارس الثالث: ظلام كثيف يختبر بصيرتي قبل بصري: سألني “هل قادر على قدر ما أخفته الأعماق؟”
لم أجبهم بلساني، فاللسان لا يقنع الحراس ويفتح أبواب البحر. أجبتهم بثبات صنعه الموقف . وصبر تعلمته من الفقد وبقناعة أغلى من كل كنوز الدنيا: الجهل شر، والحق سيف، والخٌلق سيد، والصدق عز، والباطل ذل. كلما أتممت الإجابة، انشق جزء من الظلام، وانخفض الحاجز، وظهر الطريق.
تقدمت نحو الخزانة. لم تكن مجرد خزانة… كانت لغزاً بثلاث علامات مضيئة، تحتاج كلمة سر يعرفها من وصل إلى هذا العمق قلباً لا جسداً. وضعت يدي عليها، وتذكرت عبارة مرت بي يوماً ولم أفهمها إلا الآن فنطقت بها :
“العلم هو الخير… والجهل هو الشر.”
اهتزّ الصدأ، وانفتح الباب… وكأن البحر نفسه وافق على مروري وقدم لي هديته. انفتحت الخزانة وظهر منها نور أضاء كل غياهب البحر. وجدت كتباً لم يفسدها الزمن، منقوش عليها عبارة: “الكتب بستان العقلاء، ونور العقول ورفيق الذي لا يبور .”
هناك، أدركت أن الكتابة لا تغرق، وأن الحرف مهما علا عليه الصدأ، يظل يبحث عن من يوقظه لينهض من جديد. القلم الذي دوّن تلك الكتب لم يكن مجرد أداة، بل مسافر عبر الزمن، غاص في أعماق العلم والمعرفة، سافر في بحار الأدب، غرق مع السفينة… لكنه لم يمت. ظل حياً، ينتظر قارئاً يقرأ جوهراً ينير العقول ويضيء البصيرة :
“الحرف لا يصدأ، والفكرة لا تُدفن، والبحار مهما اتسعت لا تقتل رسالة كُتبت بإيمان.”
” عندها أدركت أن الكتابة ليست حبراً على ورقاً… بل
مواجهة الزمن.
العمق الحقيقي لا يُولد من الكتب التي تطفو، بل من تلك التي تُخفى في الأعماق، حتى يشعر الكاتب بنضجه الكافي لينتشلها. فهي التي تغير صاحبها حين يخرجها. هي القناعات التي تأتي بعد تجربة توقض فكر وتنير بصيرة .
” خرجت من البحر وأنا أحمل الكتاب بيدي. لم أعد فقط بكتاب نفيس… بل عدت بانتصار لا يراه إلا من غاص إلى حدّه الأخير. انتصرت على واقع ظن أنه يستطيع كسري .
✦ المضمون ✦:
هذه الرحلة لم تكن بحثاً عن كنز .. كانت درساً في ” فهم القيمة” . الذهب يُفقد والجواهر تُسرق… أما المعرفة، فهي الكنز الذي حين تجده، تتغير أنت، لا خزينتك.
البحر علّمني أن المغامرة ليست مواجهة المخاطر، بل مواجهة الجهل. وأن الوصول إلى مكان لم يصل إليه أحد، ليس انتصاراً على البحر… بل انتصاراً على حدود علمك، وارتقاء بفهمك وبصيرتك .


