كتاب واصل

المرحلة الملكية…ماذا بعد ال 50 …؟!!

"وتبقى رحمة الله تسبق التعب، وتلمّ القلب مهما تناثر في الطريق…"

✒️ راضي غربي العنزي – كاتب سعودي

قبل أن أكتب هذه السطور، قلت لنفسي: ما أثقل الكلام حين يكون صادقًا، وما أخفّه حين يقوله غير مبتلٍّ بتجربة! لكني اليوم أكتب لك شيئًا خرج من فم رجلٍ خبر الدنيا نصف قرن، وعلّمني كيف يُرى العمر حين يكفّ عن الاندفاع، ويتحوّل إلى مرآة واسعة تريك ما كنت تهرب منه.

كنت منذ صغري مولعًا بالجلوس مع الكبار، لا لأسمع قصصهم المكرّرة، بل لأسرق من أعينهم ما لن يخبرك به أحد. تلك النظرة التي يمزج فيها الإنسان الحكمة بالندم، والرضا بالخذلان، واليقين بالله فوق كل شيء. حكمة نضجت بالنار لا بالكلام.

وقبل مدة، ساق الله إليّ رجلًا وقورًا، كأنه صفحة مفتوحة من كتب التجارب البشرية. سألته السؤال الذي لا يخيب: “بعد خمسين عامًا، بماذا تنصحنا؟”
توقّعت أن يكرر: أكثروا من الطاعة، واصبروا على الحياة… لكنّه قال شيئًا جعل الزمن يقف دقيقة احترام:

قال لي: “بعد الخمسين، لا تركض… تأمّل. لا تعاتب الدنيا… راقب. ستكتشف أن أبناءك شجر زرعته، لكنه نما بطريقة غير التي خططت لها. وهذا حقهم، وسُنّة الله التي لا تتبدل.”

كان يتكلم وكأنه يقطف من صدر الحقيقة بيد باردة، وقال:
“لا تتوقع أن يأتيك كل ما تمنّيت، ولا تحزن إن لم يحمل أولادك نسختك المطابقة. ما تزرعه ليس كله لك، وبعض الزرع يخفي ثمرته عنك رحمة من الله لا تدري عنها.”

ولم ينس أن يقول لي:
“اقرأ قوله تعالى:﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾
سورة البقرة – الآية 213
، وافهم أن الهداية ملكٌ لله وحده، لا تُمنح لأنك ربّيت جيدًا أو لأنك بكيت كثيرًا.”

ثم أضاف حديثًا يعيد ترتيب القلب:
قال ﷺ: “إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.” — أي أن هداية ابنك، وصلاح حياتك، وطمأنينة روحك… كلها أمور بين يدَي ربٍّ حكيمٍ رحيمٍ يُدبّر، لا يشبه تدبير البشر.

ثم انحنى بجسده قليلًا وقال: “اسمع قصة ابن الجوزي إن أردت أن تفهم معنى الابتلاء في أغلى الناس.”

ابن الجوزي، الواعظ الذي قيل إن الجدران تبكي إذا سمعته، تاب على يده سبعون ألفًا، لكنه اُبْتُلي -رحمه الله- بولدٍ عاق يُدعى عليًّا. تألم من عقوقه حتى ألّف له كتابًا مؤثرًا بعنوان: [لفتة الكبد إلى نصيحة الولد]، يناشده فيه ويرقّق قلبه، ولكن الابن لم يتّعظ، بل كان سببًا في سجن أبيه ابتُلي في أغلى قلبٍ عنده… ابنه. قال له مرة كأنه يناشده: يا بني، نصيحتي لك مثل لفتة كبدٍ حارقه! لكن الابن لم يسمع، بل باع مكتبة أبيه بثمنٍ بخس، وكأن العلم مجرد صندوق خشب. ومع ذلك ظل ابن الجوزي يقول: “والله ما ازددت إلا يقينًا أن الخير من الله، لا منّا.”

ثم ذكر لي كلام سقراط وهو يضحك ساخرًا: “الحكمة تبدأ حين نعترف أن ما نعرفه أقلّ مما نظن.”
وكأنه يريد أن يقول: إن أبناءك، وزمانك، وحياتك، ليست مشاريع هندسية تُبنى بالقياس؛ إنها كائنات حيّة تمشي على سنن الله، لا على ورقة خطتك.

ولم يخلُ حديثه من لمسة فلسفية رشيقة، حين اقتبس من ابن القيم قوله العميق: “من الذنوب ما لا يكفّره إلا همّ الأولاد.”
ثم أضاف عبارته الخاصة: “وما يرفعه الله من مقام العبد حين ينكسر بين يديه… أكثر مما يرفعه حين ينجح.”

وبينما نحن نتحدث، قصّ عليّ قصة حديثة تهزّ القلب ببهجة لا تكلف فيها.
قال: “قابلت قبل أشهر أبًا كان يظن أن ابنه فاشل. لا يحفظ، لا يدرس، ولا يعرف ترتيب أفكاره. وبعد أن تعب من صراخه، قال: دعوت الله ليلًا فقط لأرتاح من هذا الغم. وبعد عام، صار ابنه مخترعًا صغيرًا، فاز بجائزة علمية، ولم يفهم الأب كيف تغيّر. قلت له: ليس عليك أن تفهم… عليك فقط أن تشكر.”
ثم ابتسم وقال: “الله يخبئ النجاحات أحيانًا وراء ستارة ثقيلة… ليُريك جمال لحظة الكشف حين يحين وقتها.”

عندها أدركت درسًا لم أكن أراه:
نحن نقيس حياتنا بالنتائج، بينما الله يقيسها بالصدق.
نحن نقول: نجح ابني… فنجحت أنا.
والله يقول: صبرتَ… فرفعتُك. دعوتَ… فحفظتُك. توكلتَ… فآويتُك.

وتذكرت قول أرسطو: “غاية الحكيم ليست أن ينتصر، بل أن يفهم.”
ثم قلت لنفسي: نعم… الحكمة ليست أن يخرج أبناؤنا كما نريد، بل أن نخرج نحن من التجربة أقرب إلى الله، وأبعد عن الغرور.

خرجت من ذلك اللقاء وأنا أشعر بأن قلبي رُمّم بلطفٍ إلهي، وأن نظرتي للعمر تغيّرت. عدت إلى نفسي كأنني أعود إلى بيتٍ نسيته. صرت أرى أن دورنا هو البذل، وأن ما بعد البذل ليس لنا. وأن الثمار ليست معيارًا… المعيار هو صدق الزارع.

وها أنا أختم لك بما قاله صديقي الحكيم قبل أن نفترق:
“إن الله لا يضيّع أثرًا نقيًا… ولو تأخّر ظهوره. وبعض الأزهار لا تنبت إلا عندما ينسى الناس صاحب البذرة، ويذكرها الله.”

فيا قارئي العزيز…
ازرع، واهدأ، وامنح قلبك حقّه من الطمأنينة.
ولا تقلق على الغد… بل قل: ربي يتولاني. ربي لطيف. ربي حكيم.
وهذه وحدها كافية لتهزم غابة كاملة من الهموم.

طابت أوقاتكم بذكر الله ونوره وحفظه.

●ابتسم الآن ….فهناك من قلبه عليك ..ويكتب لأجلك وليضئ دروبا ●

*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 479438
●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●
Radi1444@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى