✍️ راضي غربي العنزي – كاتب سعودي
حين يتكلّم القلب قبل اللسان، يولد الكلام الطيب، وحين يكون الكلام من معدن النور، لا يحتاج إلى بريق زائف. إنها الكلمات التي تُحيي ما مات فينا، وتعيد ترتيب أرواحنا المتعبة في عالمٍ صاخب. كلمة صادقة قد تُقيم أمة، وأخرى تُنقذ إنسانًا من ظلمة لا يعلمها إلا الله.
الكلمة الطيبة ليست حروفًا تُقال عابرًا، بل تجلٍّ من تجليات الرحمة الإلهية، تنزل على الألسنة لتُداوي وتُصلح وتُعزّي. يقول الله تعالى:
> “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ”
(إبراهيم: 24)
هكذا تُشبه الكلمة الطيبة شجرة مباركة، جذورها في الإخلاص، وأغصانها في العلو، وثمرها في كل قلب أرهقه العناء. هي عبادة خفية لا تُرى، لكن أثرها يُرى في الوجوه التي تستعيد ضياءها بعد جملة حانية، وفي الأرواح التي تعود إلى سكينتها بعد كلمة صادقة.
قال النبي ﷺ:
> “الكلمة الطيبة صدقة”
(رواه البخاري ومسلم)
تأمل الجمال في هذا الحديث؛ لم يقل “الكلمة الصادقة” أو “الكلمة الجميلة”، بل الطيبة، لأن الطيبة نية قبل أن تكون نغمة. فحين تقول خيرًا، تفتح نافذة رحمة بينك وبين الآخرين. وحين تشكر من أحسن، تُعيد ترتيب ميزان اللطف في هذا العالم، فيصبح الخير عادة، وتصبح النفوس أكثر صفاء.
في زمن تتناسل فيه القسوة، يصبح اللطف تمرّدًا، وفي عالم يصرخ، تصبح الكلمة الهادئة ثورة صامتة. قل كلمة طيبة لمن يستحق، حتى لو لم يُقدّرك. واشكر من أسدى لك معروفًا ولو كان بسيطًا. فما خاب من جعل من فمه نهرًا يجري بالخير، فالله لا يحب القلوب التي تبخل حتى في الكلام.
قال ماركوس أوريليوس:
> “افعل الخير بتواضع، وتكلم بالخير بحذر، فالكلمة التي تخرج منك تملكك قبل أن تملكها.”
وقال سينيكا:
> “لا يحتاج اللطف إلى ثروة، فقط إلى قلب يعرف معنى الإنسان.”
الكلمة الطيبة ليست مجاملة، إنها فلسفة حياة تؤمن أن اللين أقوى من الحديد، وأن الحروف قد تُرمّم ما هدمته السنين.
دعني أحكي لك قصة صغيرة: كان رجل مسن يجلس يوميًا على مقعد خشبي في السوق، يراقب الناس وهم يمرّون. لم يكن يملك شيئًا سوى ابتسامة صادقة وكلمة طيبة لكل مارّ. وفي يوم ما، توقّف أحد التجار عنده وقال له: “لماذا تبتسم لكل الناس؟ أنت لا تعرفهم!” فأجاب المسن: “ابتسامتي ليست لهم وحدهم، إنها للعالم، ولقلبي، وللنور الذي يسكن الروح.” بعد سنوات، صار ذلك التاجر يروي القصة لكل من يلتقيه، ويصبح هو الآخر سببًا في نشر كلمات طيبة. هكذا تنتقل الكلمة الطيبة، كسلسلة من النور، من قلب إلى قلب، عبر الزمان والمكان.
بعض الناس يعيش على ما يُقال له من طيب الكلام كما يعيش النبات على الضوء. كلمة واحدة قد تفتح نافذة في صدر مغلق منذ زمن، وقد تُعيد لأحدهم إيمانه بالحب أو بالحياة أو برحمة الله التي لم تغب عنه يومًا. فما أعذب أن تكون كلمتك مثل يد خفية تمسح على قلب موجوع، أو نسمة تُطفئ في صدر ما تبقى من لهب الحزن.
قال أفلاطون:
> “الكلمة دواء، قليلها يشفي وكثيرها يقتل.”
وما أصدقهم جميعًا… فكم من لسان رفع صاحبه، وكم من لسان هوى به إلى الحضيض!
الكلمة الطيبة لا تُكلّف شيئًا، لكنها تفتح في قلبك بابًا من النور، لأنها عبادة لا تحتاج إلى ركوع أو سجود، لكنها ترفع في ميزان النية، فالرحمة تظهر في الصوت قبل أن تُنطق الحروف.
قال أحد الحكماء:
> “قل خيرًا حتى لا تندم، فالصمت دواء، لكن الكلمة الطيبة شفاء.”
إن من أعظم صور حب الله لعباده أن يجعل أثر الكلمة يمتد بعد قائلها، كأنها توقيع من رحمته على صدق النية. فمن قال خيرًا فله من الله خير، ومن قال شرًا فليحذر أن يكتب على نفسه جرحًا لا يُمحى.
الكلمة ليست فقط تواصلاً بين الناس، بل صدى للقدر. قد تهمس اليوم بكلمة، فتعود إليك بعد أعوام على هيئة لطف لا تدري من أين جاء، كأنها رسالة قديمة عادت إليك وفيها توقيع من النور.
تذكّر دائمًا أن كلماتك قد تكون للآخرين ملجأ، وللأيام التي لم يولد فيها النور بعد، شعاعًا. أنثِر كلماتك كما تُنثر البذور في أرض عطشى، فربما تُثمر في روح لم تبتسم منذ زمن، وربما تضيء دربًا لم تكن تعلم أنك تمر بجانبه.
الأمثال تقول: “اللسان كالريشة، ما يرفرف في قلبك يطير إلى الآخرين.” والحق أن اللسان لا يحمل إلا ما كان في القلب؛ فاجعل قلبك نورًا، فتخرج كلماتك نورًا أيضًا.
في عالم يزدحم بالصخب، تبقى الكلمة الطيبة هي المشهد الأخير الذي لا يُكتب بالحبر، بل يُكتب بالنور على جبين الأيام، وتظل صدىً في الأرواح، كأنها أثر أبدي لا ينتهي، حتى لو غابت الأصوات من حولك….
●أبتسم الآن ..فأنا أكتب لأجلك .!
*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 497438
______________________________________________
Radi1444@hotmail.com



