كتاب واصل

يسر و طمأنينة

الدكتور خالد علي الغامدي اخصائي نفسي وخبير تربوي

في كل عام، تتجه أنظار العالم الإسلامي إلى أطهر بقاع الأرض، حيث تبدأ قصة الحج، الركن الخامس من أركان الإسلام، الذي تهفو إليه قلوب المؤمنين من كل فج عميق. ومع هذه القلوب، تبدأ قصة أخرى لا تقل روحانية ولا عظمة، وهي قصة المملكة العربية السعودية مع الحج قصة إدارة، وعطاء، وإيمان، تجسدها تفاصيل دقيقة، وملحمة تنظيمية يشهد لها التاريخ.

منذ لحظة أن يخطو الحاج أرض المملكة، يبدأ مشهد استثنائي من الاستقبال، ليس استقبالًا رسميًا، بل احتضانًا شعبيًا وروحيًا، حيث يتحول كل موظف، كل جندي، كل متطوع إلى سفير محبة ينقل رسالة “أهلاً بضيوف الرحمن”. في المطارات والموانئ والمنافذ البرية تسير الإجراءات بسلاسة مذهلة، وتُنقل القلوب قبل الأجساد إلى رحاب مكة والمشاعر في رحلة تبدأ بالترحيب وتنتهي بالشوق.

هذا التنظيم ليس صدفة، بل هو نتيجة لتوجيهات مباشرة من القيادة السعودية الرشيدة، التي لا تدخر جهدًا في سبيل تسهيل الحج. فخادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده يشرفان على هذا الحدث الجليل، ويتابعان أدق تفاصيله، ويؤكدان أن خدمة الحاج شرف وأمانة، وأن كل زائر لبيت الله الحرام هو في ضيافة الدولة والشعب، قبل أن يكون في ضيافة المكان.

وتُظهر المملكة التزامها الراسخ من خلال ما تنفقه بسخاء على البنية التحتية والمرافق والخدمات. فهناك آلاف العاملين الذين لا ينامون لتظل المشاعر طاهرة نظيفة، وملايين الأضواء التي تنير دروب الحجاج ليلًا، وأنظمة التهوية والتكييف التي تخفف عنهم وطأة الحر. ولا يتوقف العطاء عند الراحة الجسدية، بل يمتد إلى العناية الصحية، حيث تنتشر المستشفيات والمراكز الطبية المجهزة بأحدث التقنيات، ويعمل آلاف الأطباء والممرضين على مدار الساعة لتأمين صحة الحجاج ورعايتهم، في مشهد طبي وإنساني نادر المثال.

أما التحدي الأكبر، فهو إدارة هذا البحر البشري، حيث الملايين من شتى بقاع الأرض، من أعراق وألسنة متعددة، يتحركون في وقت واحد، في أماكن محدودة. ومع ذلك، تنجح المملكة في كل عام في تقديم نموذج عالمي فريد في إدارة الحشود، مدعومًا بتقنيات متطورة من ذكاء اصطناعي وكاميرات وطائرات مسيّرة، ومعززًا بفرق بشرية مدرّبة تتقن اللغات وتفهم الثقافات، لتصنع من الحج تناغمًا إنسانيًا لا يحدث إلا في هذه الأرض المباركة.

ولعل أجمل ما في هذه القصة هو ما لا يُكتب: تلك الابتسامة من جندي امن، ويد عامل نظافة ترفع طريقًا ليمر عليه الحاج، ودمعة وداع من حاج امتزج قلبه بالمكان مشاهد تلخص فلسفة المملكة أن الحج ليس مجرد عبادة، بل رسالة حضارية، وتجربة روحانية، وتعبير صادق عن أن هذه الأرض خُلقت لتكون مهوى أفئدة الناس.

وهكذا، لا ينتهي الحج بانتهاء المناسك، بل يبدأ أثره في قلوب الحجاج حين يرحلون وهم يحملون في ذاكرتهم وطنًا اسمه السعودية، وطنًا جعل من الإيمان إدارة، ومن الضيافة عقيدة، ومن خدمة ضيوف الرحمن أعظم شرف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى