حين يتهذّب الوحش فينا…!!
"في كل لحظةٍ يضطرب فيها العالم، يمدّ الله عباده بحكمةٍ خفيّة، تحفظ عقولهم من الانفلات، وقلوبهم من التوحّش، وكأن رحمته تُمسك بهم من حيث لا يشعرون.

✒️ راضي غربي العنزي – كاتب سعودي
تحيط بنا المشتتات كما تحيط الرمال بقدم من يحاول عبور الصحراء. تُغريه بالبريق، وتغوص به إن استسلم. نحن اليوم نعيش بين شاشاتٍ تلوّث البصر، وأصواتٍ تسرق البصيرة، وهرولةٍ جماعية نحو ما لا يُدرك ولا يُثمِر. في هذا الزحام لا ينهزم إلا من سلّم نفسه للفوضى، ولا ينجو إلا من جاهد ذاته حتى صار سيّدًا عليها.
إن النفس – كما قال سقراط – ميدان معركةٍ لا يُرى، ولكن نتيجتها تُشكّل كل ما يُرى. فكم من إنسانٍ ضاع لأن لسانه سبق تفكيره، وكم من آخرٍ نجا لأنه تروّى قبل أن ينطق، ووزن الكلمة بميزان الوعي لا العاطفة.
نحن لا نحتاج إلى معجزةٍ كونية لنتغيّر، بل إلى لحظة صمتٍ نسمع فيها أمر الله في داخلنا وهو يوقظنا من غفلةٍ طويلة.
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾.
إنها دعوة ربانية لتطهير النفس لا لتقديسها، ولإدراك أن الهداية بيده وحده، وأن الاتزان لا يُنال إلا بنوره الذي يهدي القلوب.
قال كونفوشيوس الفيلسوف الصيني: من انتصر على نفسه فقد هزم أشرس أعدائه. وهذه الحقيقة على بساطتها صعبة التطبيق في زمنٍ تُقاس فيه القيمة بالضجيج، والهيبة بالصوت الأعلى. نحتاج إلى شجاعةٍ لا تُشبه شجاعة السيوف، بل شجاعة الصمت، والعودة إلى الله قبل كل خطوة، لأن الترويض الحقيقي يبدأ من القلب حين يخشع، لا من الجسد حين يتأدب.
وقال النبي ﷺ:
> ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.
حديثٌ يهدم جبال الغرور في لحظة، ويعيد الإنسان إلى طاعة خالقه، حيث القوة لا تكون بالبطش، بل بالتحكم، ولا بالسيطرة، بل بالسكينة.
لقد أصبحنا نسير في غابةٍ كثيفة، كل شجرة فيها فكرة، وكل صوتٍ فيها فتنة، وكل دربٍ فيها يوهمك أنه طريق الخلاص. لكن المؤمن الحقّ لا ينسى أن الله هو الهادي، وأنه لا هُدى إلا من لدنه، ولا طمأنينة إلا بذكره، ولا وضوح إلا حين تتوجّه إليه بقلبٍ منكسرٍ يسأله الثبات قبل القرار، والنور قبل الخطوة.
إننا لا نحتاج إلى حروبٍ جديدة لنثبت قوتنا، بل إلى حوارٍ صادقٍ مع أنفسنا لنفهم ضعفنا. لا شيء يحرر الإنسان من عبودية ذاته إلا حين يعرف أن القوة المطلقة لله وحده، وأننا مهما بلغنا من اتزانٍ أو نجاح، نبقى بين يديه لطفًا ورحمة.
فترويض العقل ليس كبحًا للرغبات فقط، بل تهذيبٌ للأفكار حتى تتسق مع الإيمان بالله. فكل فكرةٍ لا تمر من تحت ضوء التوحيد مظلمة، وكل فعلٍ لا يُراقَب فيه الله ناقصٌ مهما بدا براقًا.
وقال إبكتيتوس “وهوفيلسوف روماني” : إن لم تتعلم كيف تحكم نفسك، ستبقى عبدًا حتى لو جلست على العرش.
ويا له من قولٍ يعيدنا إلى جوهر الدين نفسه، حيث لا قيمة لمقامٍ بلا تقوى، ولا وزن لعقلٍ لم يتأدب مع الله.
في لحظة الغضب، تذكّر أن الله يراك، وأن الصمت عبادة، وأن الحلم نور. وفي لحظة الفرح، تذكّر أن الله هو من وهبك، فلا تنسب لنفسك إلا ضعفها. فبهذا التوازن فقط، تحيا الروح في طمأنينة، ويتحرر الفكر من شوائب الغرور والاضطراب.
نحتاج أن نكون أكثر سخرية من غرورنا، وأكثر جدية في تزكية نفوسنا. فكل من ظن أنه يملك زمام الأمور، علّمه الله بلطفه أنه لا يملك حتى أنفاسه. وكل من ظن أنه وحده يعرف الصواب، أراه الله بحكمته كيف أن العقل نفسه نعمة لا تكتمل إلا بنوره.
يا لروعة الحياة حين تُدار بعقلٍ يسبّح، وقلبٍ يتفكّر، ولسانٍ يحمد. حينها فقط ندرك أن الوعي ليس رفاهية فكرية، بل عبادة خفية، وأن الاتزان ليس ترفًا، بل أمانة أمام الله.
فنحن لا نروض أنفسنا لنبدو حكماء، بل لنبقى عبادًا. لا نكبح الغضب لننال مديح الناس، بل لننال رضى الله، الذي بيده سكينة لو وُزّعت على القلوب، لانطفأت العواصف كلها.
*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 497438
■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■■
Radi1444@hotmail.com


