✍️ راضي غربي العنزي – كاتب سعودي
ليست الطمأنينة صدفة، ولا نتيجة حظ أو عزلة، بل هندسة دقيقة تبنيها التجارب والوعي بالله والناس. إنها فن ترتيب الفوضى الداخلية، وتشييد جدران من الصبر حول قلب كان مكشوفًا للرياح. الإنسان لا يُولد ساكنًا، بل يصبح كذلك حين يدرك أن كل اضطراب في الخارج يبدأ من خلل صغير في الداخل، وأن إصلاح النفس هو أعظم أعمال العمر. نحن لا نفتقد الرفاهية، بل نفتقد التصميم الداخلي للسكينة. الطمأنينة تحتاج عقلًا يضبط العاطفة، وإيمانًا بالله، ووعيًا يعلمنا أن الطمأنينة ليست غياب الضجيج، بل القدرة على سماعه دون أن نهتز.
في زمن امتلأ بالضجيج والمظاهر وفلاتر العلاقات، لم يعد الجمال أن تجد من يبهرك، بل أن تجد من يعقلك حين تميل، ويسند روحك حين تتعب، ويعيدك إلى نفسك حين تتوه. ذلك الكائن النادر الذي لا ينافسك ولا يربكك، بل يُرممك من الداخل بصمته، لا بكلامه. ليست المعادلة عن العشق ولا الدراما، بل عن الاتزان النفسي والاجتماعي: أن تجد في شريكك ملاذًا نفسيًا وبيئة فكرية لا تجهدك، بل تنيرك. أن تذهب إليه مثقلًا بكل همومك فتخرج من عنده وكأنك خرجت من جلسة مع الحياة نفسها بعد أن غسلت عنك غبارها ونظمت أفكارك.
حين تتأمل هذا البناء الداخلي، تدرك أن النفس مثل الأرض العطشى، تحتاج إلى من يُعيد لها ريّها، ليس بالماء وحده، بل بالحكمة والسكينة والرحمة والوعي المتجدد. كل فوضى صامتة في قلبك تصبح فرصة لترميم نفسك، وكل ألم يمر عليك يصبح درسًا، وكل سكوت يتخلل حديثك مع الآخر يصبح نغمًا يعيدك إلى مركزك الداخلي.
العلاقات لا تنجح بالانبهار، بل بالوعي. الشريك الحقيقي ليس من “يفهمك دائمًا”، بل من يحترم عقلك حين تختلفان، ولا ينسحب من الموقف لأنكما لم تتطابقا. قال تعالى: “وجعل بينكم مودة ورحمة”. لم يقل “تشابهًا واتفاقًا”، لأن الاختلاف جزء من الجمال الإنساني، والمودة هي الأساس الذي يدير هذا الاختلاف دون أن يُفسده.
إن حضور الإنسان العاقل في حياتك يشبه إعادة هندسة الكون في داخلك، فهو يعيد ترتيب الأفكار، ويعيد رسم المشاعر، ويزرع السلام في الأعماق. إن فهم الآخر لا يأتي من مجرد الاستماع، بل من القدرة على احتواء كل الضوضاء والاضطراب ومنحها مسارًا للطمأنينة. وكل لحظة عيش بجانبه هي درس في ضبط النفس، واحتواء الذات، ورفع القدرة على الصبر دون أن تخسر روحك.
في عالم تُقاس فيه العلاقات بعدد الرسائل وردود الفعل، هناك علاقة تُقاس بعدد المعارك التي تجاوزتها دون أن تفقد احترامكما لبعضكما. أن تكون جليسًا نفسيًا لشريكك يعني أن تنصت له حين يختنق، لا لترد، بل لتفهم فوضاه بعقل مطمئن لا يضخمها ولا يقللها. إنها معرفة إنسانية عميقة: أن تعرف متى تعاتب، ومتى تسكت الألم بالحضن، ومتى تترك المساحة لتلتئم الأمور من تلقاء نفسها.
جيلنا يتقن العتاب أكثر من الإصلاح، نحاسب أكثر مما نداوي، ونبالغ في التحليل حتى نُفسد بساطتنا. بينما الحقيقة أن أغلب المشكلات لا تحتاج فلسفة، بل إنسانًا يشعرك أن العالم ليس ضدك. أن يجلس معك في أسوأ لحظاتك دون أن يحاضر، أن يعيدك إلى وعيك دون أن يهينك، أن يخفف وطأة الحياة لا بماله ولا بكلماته، بل بحضوره وهدوئه. قال أحد الحكماء: “من وُهب قلبًا رحيمًا، فقد اكتملت فيه أسباب الطمأنينة”.
إن مجرد وجود هذا الإنسان في حياتك يعلّمك أن الطمأنينة ليست مفاتيح خارجية، بل جوهر داخلي ينبع من روحك وعقلك وإيمانك بالله. إنه يذكرك أن كل شيء يمكن أن يُعاد ترتيبه وأن الفوضى يمكن أن تتحول إلى نظام هادئ إذا نظرنا إلى الحياة بعين هادئة متيقظة.
في النهاية، ليست المعجزة أن تجد شخصًا يشبهك، بل أن تجد من يوازن فوضاك بروح متزنة ويعيد ترتيب حياتك من الداخل. العلاقات التي تبقى ليست تلك التي تلهب القلب، بل التي تطفيء الحرائق قبل أن تشتعل. وعندما تسير في طريق الحياة وتتعثر، ثم تجد من يعيدك إلى نفسك دون ضجيج، فاعلم أنك وجدت أكثر من شريك، لقد وجدت الإنسان الذي اختاره الله ليذكرك أنك لست وحدك في معركة الوعي. ولعل أجمل ما في الحياة أن يجعل الله بعض النفوس هندسةً للطمأنينة في قلوب البشر.
*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 497438
————————————————-
Radi1444@hotmail.com



