مطلوب للعدالة: الرحمة.. آخر الهاربين من قلوبنا!
الرحمة ليست مشهدًا عابرًا، إنها الفيلم الكامل الذي يحدد إن كنا أبطالًا في الحياة أم مجرد كماليات على هامشها»
بقلم: راضي غربي العنزي – كاتب سعودي
في كل عصرٍ، يتباهى الناس بتطوراتهم واختراعاتهم وأبراجهم العالية، ثم يُغفلون عن شيء بسيط… لكنه أخطر: “الرحمة”. ذلك الشعور الذي يذيب قسوة العالم ويجعلنا نبدو بشرًا حقًا لا مجرد آلات تمشي على قدمين.
قال ﷺ: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله»، وقال أيضًا: «إنما يرحم الله من عباده الرحماء»، ثم حسم القضية بحديث آخر: «لا تُنْزَع الرحمة إلا من شقي». إذن نحن أمام معادلة واضحة: كل لمسة رحمة تمنحها، هي تأشيرة عودةٍ لرحمةٍ أعظم تُغمر بها. وكل مرة تقسو، إنما توقع وثيقة انحدارك نحو الشقاء.
لكن المضحك المبكي أننا في حياتنا اليومية نمارس القسوة وكأنها بطولة! الأب يظن أن شدته على أولاده “هيبة”، والمدير يعتقد أن صوته العالي “إدارة”، والزوج يرى أن تجهمه “رجولة”، وحتى بعض الأصدقاء يتفننون في قسوتهم ويقولون لك بعدها: “هذا من حرصنا عليك”. ثم نتساءل جميعًا ببراءة الأطفال: لماذا تختفي البركة من حياتنا؟
الرحمة ليست مجرد عاطفة عابرة نلوّح بها لنبدو طيبين، بل هي فلسفة وجود. أن ترفق بالضعيف وأنت قادر على سحقه، أن تبتسم في وجه من يملك أسبابًا لإغضابك، أن تختار أن تكون إنسانًا بينما كل الظروف تدفعك لتكون نسخة جديدة من قسوة هذا العالم.
والأغرب أن بعضنا يظن الرحمة ضعفًا! في حين أنها أعلى درجات القوة، لأنها تحتاج قلبًا مطمئنًا لا يخاف من الكسر، وعقلًا ناضجًا لا يتورط في التفاهات، وروحًا تعرف أن من يفتح للناس باب الرحمة، إنما يفتح لنفسه باب السماء.
انظر حولك قليلًا: ستجد أن القسوة صارت “ترندًا” يُصفّق له البعض. نحتفي بالفظاظة وكأنها شجاعة، ونسمي البرود “عقلانية”، ونتفنن في التجاهل وكأنه فن اجتماعي. ثم نتساءل بكل سذاجة: لماذا تحولت حياتنا إلى صحراء بلا ظل؟
الرحمة إذن ليست رفاهية، بل هي معيار الحياة والموت. مجتمع بلا رحمة هو غابة، وأسرة بلا رحمة هي سجن، وإنسان بلا رحمة هو مجرد رقم في عداد الأحياء.
فلتسأل نفسك بصدق: هل لا زالت في قلبك بقية رحمة، أم أنك أصبحت مجرد نسخة أنيقة من قسوة العالم؟
اعذروا الرحمة، فقد فرت من قلوبٍ لم تعرف قيمتها.
*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 497438
_________________
Radi1444@hotmail.com