كتاب واصل

” جسور متهالكة “

"من حبال الودّ إلى جدران الصمت… كيف انهارت جسور التواصل في زمن التقدّم؟"

بقلم : فهد الرياحي 

في المجتمعات : كما في المدن ” تبنى الجسور “. بعضها من حديد وأسمنت . وبعضها من محبة وثقة . ومن قيم وعادات. لكنها في نهاية المطاف شيدت للعبور والوصول لا للنقطاع والبعد شيدت بنقاء .. وبعضها بذكاء، لتكون ” امتداداً للقلوب تحبّ الوصل وتسعى إليه.

لكن ما بني على المحبة لا ينهار . وما ارتكز على الوفاء لا يسقط. بعض الجسور وإن تهالكت ملامحها تظل واقفة … لأنها بنيت على شيءٍ أعمق من الطين والحديد ” بنيت على المحبة على الصدق، على الوفاء .. روابط لا تهزمها تقلبات الحياة”.

لكن شيئًا ما تغيّر في وقتنا الحاضر … فالمؤلم اليوم ليس في سقوط الجسور الخرسانية . بل في تهاوي تلك التي لا تُرى … ” جسور العلاقات ” ضعفت وأن كانت بالأمس قوية متماسكة تتحمّل الضغوط وتثبت لكنها اليوم صارت هشّة ومتهالكة . تتاثر من أول ضغط وتسقط عند أول خلاف .

ولفهم هذا التحوّل العميق – لا بد أن نُقارن بين زمنين: إذا نظرنا إلى الماضي .” حين كانت البيوت من طين… والقلوب من ذهب” نجد أن البيوت الطينية، رغم ضيق مجالسها، كانت واسعة بالحب وتتسع . وأن الأيام رغم قسوتها وصعوبتها ، كانت جميلة بتواصل والمحبة والألفة بينهم بسؤال والكلمة الطيبة جعل للايام حلاوه وطعم ومعنى بطِيب من عاشوها. فرغم شحّ المواصلات وبساطة التعليم، شيد آباؤنا وأجدادنا جسورًا من الود والمحبة والصلة . عبروا بها بأقدام لاتهاب المسافات من أجل الوصل. تجاوزوا بها الفقر والصعوبات والبعد والاختلافات. كانت العلاقات آنذاك تبنى على الفطرة . وتسقى بماء الحضور والاهتمام.

واليوم… رغم كل ما نملكه من مدنٍ متطوّرة . وشوارع متّصلة، .وأجهزة ذكية تقرب المسافات وجدنا أنفسنا نبتعد أكثر تهاوت الجسور التي بيننا، وتصدّعت من الداخل . لا بفعل التقنية بل بأيدينا أهملناها بتجاهلنا وانشغالنا وركضنا خلف تفاصيل لا تسمن العلاقات ولا تغنيها.

فلم يعد القريب يسأل عن قريبه ولا يعود الصديق إلى صديقه ولا يربط الجار بجاره سوى جدار. تآكلت الجسور التي كانت تقودنا نحو السعادة وصار كلّ فردٍ جزيرةً معزولة تحاصرها ” مياه الصمت وتغرق في ضجيج الانشغال” .

وإذا أردنا أن نلمس هذا الانهيار بوضوح، فلننظر إلى طقوس التواصل البشري: خف الاهتمام، وتباعدت القلوب وأُجلت الزيارات إلى أجلٍ غير مسمّى. صرنا نعيش اغتراباً حقيقياً … ونحن في مدينة واحدة . تهالكت الجسور ” لأننا نسينا كيف نبنيها من جديد نسينا أن نعتذر . أن نسأل أو نصل رحمًا انقطعت حبال وصله ” .

وبينما نحمل الظروف عبء التباعد نغفل عن السبب الحقيقي ولأن الأسباب لا تكمن في الأجهزة بل فينا نحن ” كان لابد من الاعتراف الصريح ” نحن لا نعيش أزمة تكنولوجيا ” كما نوهِم أنفسنا بل أزمة تواصل لا نعاني من ضيق الوقت بل من ضيق الرغبة في مدّ الجسر نحو الآخر . ” هذا التصدّع في علاقاتنا لم يحدث فجأة بل تراكم بصمت عبر سنواتٍ من التجاهل والتباعد وغياب التفاصيل الصغيرة التي كانت تصنع الحياة ” .

لم تسقط جسور المجتمع بين ليلةٍ وضحاها بل انهارت كما ينهار جدارٌ قديم في منزلٍ مهجور … بعد أن أرهقه الصمت وأنهكه الانتظار .

تناقض محيّر: كلما تقدّمنا ” مادياً تراجعنا إنسانياً ” ومع هذا التناقض – يبقى السؤال حاضراً: هل نكتفي بالوقوف وصمت ؟ الواقع لا ينتظر منا كثيرا من الكلام بل كثيراً من الفعل. “جسور متهالكة” ليست مجازاً لغوياً نردده
بل واقعاً نعيشه. “واقعاً يصرخ في وجوهنا كل يوم ” ونتجاهلة بينما نمضي في طريق العزلة ونتجاهل صراخه ونمضي في دربٍ لا يشبهنا نجمل الانقطاع بالتبرير ونتقن فن الغياب أكثر من الحضور.

ومع كل هذا ما زال الأمل قائمًا… ألم يحن الوقت لنرمّم هذه الجسور؟ لنعيد للعلاقات معناها؟ أعلم وأنتم تعلمون أن هناك منا ما زال متمسكًا في بني الجسور واعادة بناءها كل مرة… بمحبة، وبمبدأ حياة.

أعترف أني كنت أول المقصرين . وسوف أحرص على هذه الجسور الغالية واهتم بها . لأنّ الوفاء ليس خيارًا بل حياة تستحق أن نحياها معاً .”

لأننا، في النهايةخلقنا لنعيش الحياة لا لنعبرها ببرودٍ أو عزلة . ورغم كل ما تغيّر ما زال الإنسان قادرًا أن يكون جسرًا للخير لا حاجزًا للوصل.

فلنبدأ بأنفسنا. فلنعد السؤال والاهتمام، والاعتذار، واللقاء. فلنُرمّم، لا ننتظر. فالمجتمع لا يُبنى على الإنشاء فقط . بل على الإحياء…إحياء الجسور قبل أن تُهدم كلياً .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى