اختفاء ثقافة ” الفزعة ” في المجتمع العربي

للتعريف بمفهوم “الفزعة ” في الموروث الثقافي العربي بشكل عام يمكن أن نقول بأن هذا المصطلح وفقا لمعاجم اللغة يعني تقديم العون والتضامن فيما يتعلق بإنقاذ طالب الفزعة إذا ما تورّط في مشكلة اجتماعية أو ضائقة مالية أو تقديم المساعدة فيما يتعلق بتحقيق منفعة ما لا يمكن لطالب الفزعة تحقيقها بمفرده و دون تدخل عنصر خارجي بما يملكه هذا العنصر من نفوذ أو قوة ردع أو مقدرة مالية أو مكانة اجتماعية تلبي نداء طالب الفزعة بما لا ينعكس سلبا على استحقاقات الآخرين في المجتمع الذي يعيش فيه طالب الفزعة، أي أن الفزعة تشبه في يومنا هذا عملية الاتصال هاتفيا بالدفاع المدني لإطفاء النيران المشتعلة او الاتصال بفريق الاسعاف لكي يتولى مهمة انقاذ مريض و نقله لقسم الطوارئ في مركز طبي، غير أن مفهوم الفزعة في يومنا هذا قد توسعت دلالته اللغوية لتشمل معاني اخرى مختلفة من حيث أن بعض طالبي الفزعة يريدون تحقيق ما يسعون اليه حتى على حساب استحقاقات المنافسين لهم, ذلك أن كلمة “فزعة” اشتملت اليوم على مفاهيم اجتماعية معاصرة في اللهجات والثقافات العربية المحلية مثل “واسطة”، و “فيتامين واو”، و “فيتامين سي” وغير ذلك من مفاهيم لغوية تشير الى تحقيق اهداف طالبي الفزعة بمساعدة أطراف أخرى أو الوصول الى مبتغاهم عبر الصعود على اكتاف الآخرين.
كانت ظاهرة «الفزعة» قد برزت تقريبا في شبه الجزيرة العربية خلال القرن الحادي عشر الهجري واستمرت لمئات السنين ثم تلاشت و اختفت تقريبا خلال القرن المنصرم، ولم يعد لها في عالم اليوم أي قيمة اجتماعية بعد سن القوانين المنظمة لحياة الناس، و بعد فرض اجراءات تنظيمية معينة للحد من تغلغل مفهوم الفزعة في النظم المتعلقة بنزاهة الاستحقاق في المنافسات والمسابقات المعدة مسبقا في مجالات كثيرة من بينها العمل والتعليم وغير ذلك من المجالات المختلفة الأخرى.
وكما ذكرت في مقال سابق بعنوان اختفاء ثقافة ” الدخيل ” في المجتمع العربي، فإن ثقافة ” الفزعة ” تكاد أيضا أن تختفي اليوم في ظل القوانين الجديدة المعاصرة لكنها لم تتبدّد تماماً من المشهد الثقافي العربي إذ لا يزال البعض يرتكز ويعتمد في منافساته مع الآخرين على هذه الفزعات أو الفيتامينات التي تجعل طالب الفزعة يحقق أهدافه أو يكون قريبا من تحقيقها بمجرد حصوله على هذه الفيتامينات الفزعوية و تقديمها له على طبق من ذهب أو طبق من فضة.
في تقديري أن الفزعة تكتسب قيمة مجتمعية ايجابية عندما يكون طالبها في أمس الحاجة لدعم و مساندة عناصر أخرى في المنظومة الاجتماعية شريطة أن لا يكون هذا الدعم على حساب أطراف أخرى أكثر استحقاقا منه وتأهيلا بمعنى أنه ينبغي للإنسان أن يفزع بما تجود به نفسه لذوي الحاجات والمعسرين والمنكوبين امتثالا لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}ِ و ذلك لما للتعاون على البر والتقوى من الضرورة والأهمية في المجتمع الإنساني.
أما عندما تكون الفزعة من أجل نصرة الفرد ومساعدته على حساب حقوق أو مستحقات أفراد آخرين، فحينئذ يدخل مفهوم الفزعة في معنى النهي المنصوص عليه في الآية الكريمة: ” ولا تعاونوا على الإثم و العدوان”.
والآن وبعد توضيح المعنى الأساسي لمصطلح الفزعة وما يتفرع عن هذا المعنى من دلالات اجتماعية اخرى، فان ثقافة الفزعة، و إن اختفت معانيها الأساسية عبر الأزمنة مثلما قرأنا و سمعنا عن عمليات الإمداد في الحروب و التحالفات القبلية أثناء حقبة المعارك و الغارات و الثورات و الغزوات و الغارات و المناوشات، إلا أنها لا تزال تلقي بظلالها الوارفة على حياة المجتمعات العربية الحديثة لاسيما المعاني المتعلقة بمد يد العون والمساعدة للفقراء والمحتاجين والمنكوبين مع انحسار ملحوظ في المعاني المتعلقة بتلبية نداء استغاثة أو فزعة ما على حساب استحقاقات اطراف أخرى اذا ما تعلق الأمر بالتنافس على مسابقات وظيفية أو رياضية أو ثقافية أو بالتسجيل في مؤسسات تعليمية و مهنية مختلفة, أو حتى أثناء الوقوف في طوابير الانتظار أمام المخابز والمقاهي.
أما على مستوى الدول اليوم, فأعتقد أن الفزعة لا زالت هي الخيار المتاح والبديل الجاهز في حال نشوب حرب بين دولتين لا تستطيع إحداهما مواصلة الحرب بعد تكبدها خسائر فادحة في الأرواح و الممتلكات، و إن تغير مصطلح الفزعة الى مصطلحات عسكرية معاصرة مثل “تحالف”، و ” دعم لوجستي”، و ” إمدادات ” أو “مساعدات ” كما حدث ويحدث اليوم من دعم دول حلف شمال الأطلسي لأوكرانيا في حربها مع روسيا الاتحادية، وكذلك مثلما قامت به أمريكا من تقديم المعونات العسكرية لإسرائيل في حربها التي لا زالت مستمرة حتى اليوم على قطاع غزة المحاصر. فكل دلالات الدعم و المساندة في هذا العصر تتضمن نفس معاني الفزعة ثقافيا عند العرب في العصور الماضية و إن اختلفت مبرّرات الفزعة و دوافع الهبّة من حقبة زمنية الى أخرى و من جيل الى جيل، في حين تغير مفهوم الفزعة في المجتمع المدني الحديث الى مصطلحات اخرى حديثة مثل مساعدات اغاثية أو مساعدات إنسانية.
من كل ما سبق أرى أن لثقافة الفزعة جوانب ايجابية و جوانب أخرى سلبية إذا ما تم تطبيق مفهوم الفزعة على حساب حقوق الآخرين أو جاءت للتعدي على ممتلكات البشر و سلب مكتسباتهم و نهب ثرواتهم واحتلال أراضيهم. وفي هذا السياق يتجلى المعنى السلبي لمفهوم الفزعة. وأما ما يتعلق بتطبيق الفزعة لخدمة قضايا الأمة ونصرة المستغيثين والمظلومين والمنكوبين والمحتاجين، فإن للفزعة حينئذ تأثير ايجابي في نفوس وقلوب المحتاجين لثقافة الفزعة العربية الراسخة والمتجذرة في أعماق التاريخ.