في نوستالجيا العيد
ولما انقضى شهـر الصيـام بفضله *** تجلَّى هـلالُ العيـدِ من جانبِ الغربِ. (ابن الرومي)
العيد في القرية قديماً له رمزية فريدة حيث يأخذ بعداً وشكلاً خاصاً لارتباطه بالمكان وبساطة الحياة وكون الناس يعرفون بعضهم البعض، ولأن نفوسهم كانت عامرة بالحب والمودة والتسامح، وقلوبهم خالية من الأحقاد وعقولهم نقية من الأضغان، ويتمنون الخير لبعضهم بعض مما كان يعزز من ترابط النسيج الاجتماعي في المجتمع الذي كان مٌتماسكاً أنذاك، كان يأتي العيد والقرية كلها تكتسي بحلة من الفرح وتزدان بالألق والبهجة، والكرم والبشاشة، وتصبح القرية أكثر جمالاً وبهاء وحيوية، وللعيد في القرية ذكريات لها رونق وبهجة ونكهة خاصه لارتباطه بالماضي الجميل حيث مهد الطفٌولة وأيام الصبا والبساطة والعفوية، ولكل منا ذكرياته الجميلة التي مازالت عالقة في الأذهان ونظل نستدعي هذه الذكريات التي تختزنها مخيلتنا ونعاود اجترار شذرات من تلك الذكريات التي نشتاق إليها كلما أقترب العيد، ولعل شقوق الذاكرة تسعفني ببعض منها، واستقبال العيد في القرية له وقع خاص في نفوس الصغار حيث كانت فرحتهم وسعادتهم لا توصف، وقبل العيد بعدة أيام يتم شراء كسوة العيد حيث يجوب الأطفال السوق مع أباءهم لشراء ملابس وأحذية العيد، والملابس أغلبها ثياب يتم خياطتها من قماش البفته والتترون، وقد اعتاد الأطفال قبل العيد بيوم يجوبون البيوت بملابسهم الزاهية ويقرعون أبواب البيوت التي كانت مٌشرعة لهم وهم يرددون عبارة (فليت، فليت ياعمة) بما يسمى بالفليته يرددون غناءها يعطرون أرجاء المكان والفرحة تغمرهم، وتقام هذه العادة في كثير من المجتمعات بمُسميات مٌختلفة ولها طقوسها وتقاليدها المميزة ..
وفي ليلة العيد يتم اشعال المشاعيل في أعالي الجبال عند ثبوت رؤية الهلال، وتقوم النساء بتنظيف البيوت وترتيبها وتجهيزها استعداداً للعيد حيث تتضوع بالطيب والبخور والفرح، ليعكسن أجواء البهجة والسعادة باستقبال العيد. وكان الأطفال ليلة العيد لا يغشاهم النوم حتى الهزيع الأخير من الليل ولا ينامون إلا بعد أن يتأكدوا من تجهيز ملابس العيد الجديدة بالرغم من بساطتها في ذلك الزمن ووضعها بجوار فراش النوم تلازمهم فرحين بها لاستقبال العيد بأبهى حلة وارتدائها في الصباح الباكر بفارغ الصبر ومرافقة آبائهم إلى صلاة العيد وسط فرحة وسعادة غامرة؛ وكانت الأحذية من نوع (باتا) التي كانت شهيرة في ذلك الزمن، كما كٌن الصبابا يهتمين بموضة (الشارلستون) وهي الفتحات الكبيرة الواسعة في أطراف الملابس والنساء يتزين ويتجملن ويصبغن شعورهن بالحناء ويخضبن كفُوفهن واطراف أصابعهن بالحناء ليلة العيد ويضعن الكحل في عيونهن فرحةً وبهجة بالعيد، ومن مظاهر العيد الجميلة ـ حلاوة العيد ـ والعيدية أحد التقاليد الاجتماعية وكانت أحد أبرز طقوس العيد عند الصغار وكانوا يحظون بعيدية متواضعة من القروش تُسهم في إدخال السرور والبهجة في نفوسهم ورسم البسمة على وجوههم ممّا يتيح لهم الفرصة لشراء ألعاب البنادق والمسدسات البلاستيكية التي تطلق الأصوات والسهام والماء في الهواء والتي لازالت في الذاكرة، وعندما كنا صغاراً كنا نطوف بيوت القرية وندخل أغلب البيوت بلا استئذان بكل ثقة واطمئنان، للحصول على نصيبنا من العيدية ونملأ جيوبنا بحلويات العيد المتنوعة والتي كان أبرزها في ذلك الزمن الحلوى (العسلية والحلاوة البيض) وفي مُعظم الأحيان كنا نٌغافل أصحاب البيوت ونغرف ملْ أيدينا ونأخذ مزيداً من الحلويات في جيوبنا بكل عفوية وبراءة الأطفال، علماً أن صاحب الدار يٌلاحظنا ويتقبل ذلك برحابة صدر محاولاً اعطاءنا المزيد، كنا أطفالاً أبرياء قلوبنا نقية نضحك ونلعب ونغني بكل بهجة وسرور، نفرح بأبسط الأشياء وننسى الألم بسرعة، نتطلع للمستقبل مٌشرئبين بالأمال والأحلام بنظراتنا البريئة وكنا نفرح بالعيد في قريتنا مثل كل الأطفال في العالم الذين يفرحون بالأعياد، لكننا مشغولون أكثر بملابسنا الجديدة وبما جمعناه من الأهل والأقارب والجيران من عيديات ونشعر بالعيد أكثر وكأن العيد عيدنا وحدنا لأننا كنا نشبه العيد بجماله، وكانت الحياة لها طعم خاص في القرية التي كان يسودها التعاون والتلاحم، ولعل من عاش تفاصيل طفولته في القرية لا يمل الحديث عن تلك الذكريات التي تركت فيه بعضاً من عبقها وأريجها، وفي نهاية اليوم نقوم بتجميع القروش لترتيبها وعدها، ويتم التباهي فيما بيننا لمن حصل على أكبر عدد من القروش وكنا نتباهى بملابسنا الزاهية أمام بعضنا البعض لدرجة أن البعض يتفاخر بأن ملابسه أفضل من ملابس الآخرين ـ والعيدية ـ كانت مرتبطة بالعصر الفاطمي حيث كان الخلفاء الفاطميون يوزعون الملابس والكعك ومعها صرة من الدنانير على موظفي الدولة وكبار القادة، واستمرت هذه العادة حتى العصر المملوكي لكنها سُميت بالـ )الجامكية(، وكان يضعها السلاطين مع أطباق الحلوى التي تُهدى لكبار رجال الدولة. ومن طقوس العيد أيضاً وجبة إفطار العيد الذي تستعد ربات البيوت بتجهيزها حيث يستيقظن قبل أذان الفجر ليبدأن اعداد العجين ويشعلن النيران لإعداد الخبز، وكانت روائح الطعام تنبعث من كل البيوت فتشعر أنك الآن في يوم العيد السعيد فتبتسم سعيداً مٌنتشياً، وفي الصباح يتداعى إلينا صوت الأذان وتصدح المآذن بتكبيرات العيد التي علت المكان مُعلنة رحيل شهر رمضان ودخول العيد، ونبدأ مٌسرعين نحو مٌصلى العيد وتعلوا أصواتنا بتكبيرات العيد ويتوجه الناس في الصباح الباكر فُرادى وجماعات يتقاطرون سيراً على الأقدام باتجاه مٌصلى العيد وتتعالى الأصوات بالتكبير والتهليل وبعد الانتهاء من الصلاة، وما أن يُنهي الإمام خطبته تبدأ مظاهر العيد حيث يتعانق الناس ويتصافحون وهم يتبادلون الحب والوفاء وتصفية النفوس وتنقيتها وتذوب القطيعة ويزول الجفاء لمن كان في نفوسهم مرض، ويتم تبادل التهاني بعبارات ـ العيد امبارك ـ ومن ـ العايدين الفائزين ـ وبهذه الكلمات تبدأ مراسم ومظاهر العيد ويحرص الكثيرين بعد الفراغ من الصلاة على زيارة المقابر والترحم على موتاهم في القبور والدعاء لهم بالرحمة والمغفرة وذلك قبل العودة إلى البيوت، وبعد ذلك يتم تناول وجبة الإفطار وكانت مائدة الإفطار تحتوي على ـ الخبزة ـ والمرق مع اللحم وكذلك السمن وهي الأكلة الشعبية الشهيرة. وكانت لها رونق خاص حيث تلاقي الأهل واجتماع العائلة صباحاً حيث يجتمع أفراد الأسرة عند أكبرهم سناً وسط أجواء من الألفة والمودة. وبعد تناول الإفطار تبدأ زيارة الأهل والاقارب والجيران وتهنئتهم ومشاركتهم فرحة العيد وعندما يأتيهم ضيف يقولون له(اسم العيد) أي تذوق من سفرة العيد، ثم تتوالى اجتماعات الأهل لأيام العيد الثلاثة بدأ بكبير السن في العائلة، وكانت أيام العيد تصحبها دوي الطراطيع والمفرقعات وأمام المنازل والساحات والتي تغطي أرجاء المكان، وكانت تُقام العرضة الشعبية بعد صلاة العصر، أما اليوم فقد تغير كل شيء فتجد القرية شبه خالية إلا من كبار السن أو بعض الأسر القليلة حيث أصبح الكثيرين من الناس يتركون القرية ويسافرون للمُدن الكبيرة لقضاء أيام العيد، وتغيرت أجواء العيد كثيراً ويأتي العيد وكأنه لا يوجد عيد بعد الصلاة عندما كان يوم العيد مُختلفاً عن أي يوم آخر لاختفاء تلك الأجواء والمظاهر الجميلة للعيد، ومع مرور الزمن والمُتغيرات الاجتماعية والنقلة الحضارية السريعة والتكنلوجيا الحديثة وتداعياتها التي اقتحمت حياتنا والقت بظلالها علينا وطالت طقوس ومظاهر العيد وأجهضت مباهج العيد وسلبت جماله، حتى فقدت الأعياد كثيراً من رونقها وطقوسها القديمة وتلاشت مشاعر الفرح في قلوب الكبار وغابت فرحة العيد في نفوس الصغار وافتقدنا الكثير من مباهج العيد لطغيان الحياة المادية على العلاقات الإنسانية حيث تبدلت القيم الاجتماعية بفعل التكنولوجيا التي باتت تلعب دوراَ في حياتنا ومشاركتنا في التهاني مما تسبب في تفكك العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الذي عزز من هذا التغير والتبدل. حتى صلاة العيد بطقوسها الدينية التي كانت أهم وأبرز المظاهر في العيد التي تعكس الروح الدينية والهوية الثقافية والتي تعد مناسبة للتواصل الاجتماعي وتبادل التهاني بين الناس أصبح الكثيرون يغيبون عنها نظراً لاستمرارهم في السهر مما يفوت عليهم الصلاة، وكانت صلاة العيد تقام العراء بما يسمى ـ مشهد العيد ـ التزامًا بالسنة النبوية حيث كانت تُشكل طقوساً جميلة ومنظراً مُهيباً رائعاً، ثم تغيرت الأحوال وأصبحت تقام الصلاة في المساجد مما أفقدتها الكثير من جمالياتها وروحانياتها. وزيارات العيد وعيدية الأطفال أصبحت على شكل توزيعات تعطى للصغار والزيارات التي كنا نُعول عليها الكثير لتعزيز الروابط الاجتماعية وردم الهوة وسد الفجوة بين أفراد العائلات فقد تم استبدالها في هذا الزمن برسائل مواقع التواصل الاجتماعي، ما تسببت في تعميق الفجوة بين الأقارب والأرحام وحتى بين أفراد المجتمع، مما أثر ذلك سلباً على التواصل بين أفراد الأسرة وأفراد المجتمع وأصبحت هذه الرسائل غير كافية ولاتعوض عن الزيارة حتى بتنا نتسول الفرحة والبهجة حنيناً للذكريات الى الماضي، وما أن ينتهي العيد ومراسيمه، حتى يعود الناس لحياتهم العادية ولمشاغلهم اليومية ،
تلويحة:
كل عام وأنتم بخير.. عيد يغمر أرواحكم بالفرح والسرور والأمل والتفاؤل،عساكم من عواده.