
✍️: فهد الرياحي
عملت، وسعيت، وتعلمت، وأيقنت، وأيقظت قلبي، واستقمت فالتزمت، وأوفيت فصدقت… ثم نهضت فانطلقت، وتجاوزت فسامحت، وأثرت فارتفعت، ورفعت فأنجزت، وأتممت فبذلت، فاجتهدت… وكتبت واخلصت حتى خطوت الخطوة التي كانت تنتظرني منذ زمن .
ومن تراكم هذه الأفعال، ومن أثر هذه المفردات، ومن شرارة تلك الإرادات …” صنعت وقود منارتي ” منارة أضاء نورها من الداخل، فصار أثرها يُرى ويُتبع ويُقتدى به. عندها فقط… فهمت أن الإنسان لا يولد بنوره، بل يشعله بيده.
في لحظة هدوءٍ نادرة، تحدث الصمت في داخلي بصوتٍ أعلى من ضجيج الأيام . لحظة أدركت فيها أن النور لا يأتي لمن ينتظره… بل لمن يصنعه. وأن الأبواب لا تُفتح للمترددين، بل للذين يطرقونها بثبات القلب قبل قوة اليد. هناك فقط… قررت أن أوقد منارتي .
تأملت قول الله تعالى:
{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}
ففهمت أن الطريق يبدأ من أعمق نقطة في النفس، من تلك البقعة التي لا يراها أحد… لكنها تغيّر كل شيء حين تتبدّل.
ثم وقفت أمام حديث النبي ﷺ:
“احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز.”
فوجدت التوجيه الواضح : انهض، استعن بالله، تحرك، لا تنتظر يداً تنتشلك… ما دمت قادراً على مدّ يدك لنفسك. فالعجز لا يطفئ الخطوات فحسب… بل يطفئ القلوب.
ولكي يكتمل المشهد، حضرت العبارة الفلسفية :
“ما يقف بينك وبين النور… هو أنت.”
فعرفت أن الهزيمة تبدأ من الداخل . وأن الاشتعال يبدأ من النفس قبل أن ينعكس على الطريق .
وقفت أمام نفسي مواجهةً صريحة، وقلت :
لم أُخلق لأكون ظلّاً صامتاً… بل خُلقت لأكون نوراً وأثراً يعرف مساره، ويهتدي به الآخرون من بعده.
وحين اشتعل النور في قلبي، لم يبق حبيس صدري تمدّد شيئاً فشيئاً حتى صار طريقاً يُرى، وصوتاً يسمع، وأثراً يلهم.
أدركت أن المنارة التي تُبنى على الصدق لا تضيء لصاحبها وحده… بل تمتد لتلامس قلوب الآخرين، توقظ فيهم ما خمد، وتنعش ما تعب، وتدلّهم على الطرق المضيئة.
فالكلمة التي تخرج من قلبٍ ستنير وتُوقظ قلباً، والنصيحة الصادقة تفتح باباً، والخبرة التي دُفعت أثمانها تُنير دروباً لا يُحصى عددها. وهكذا صارت منارتي نوراً .
كلما مضيت بخطوة تركت خلفي أثراً . وكلما انكشفت لي حكمة شاركتها .لأن المواعظ حين تخرج من قلبٍ مضيء تنبت في القلوب حياة، وتعيد لها بوصلة الاتزان.
وهكذا صارت منارتي ليست لي وحدي… بل نافذة يبصر منها الآخرون ما غاب عنهم، ودليلاً صغيراً يذكرهم بأن الهداية تُهدى، وأن الأثر حين يُبذل… يتضاعف نوره.
أوقدتُ منارتي لأن ابن القيم رحمه الله قال:
“النور الذي يقذفه الله في القلب هو أساس كل خير.”
فإن كان الله يزرع النور في القلوب…فواجبي أن أتهيأ لاستقباله ، وأن أفتح له باباً لايُغلق.
أشعلت في داخلك نوراً لا يطلب تصفيقاً من أحد، ولا يلتفت لمدح الخلق ولا ينتظر ظهوراً ولا إعلاماً… نوراً لا يرجي إلا ما عند الله. فحين يصدق العبد في قصده، يفتح الله له من بركات السماء ما لا يُرى، ويجعل في كلماته أثراً .
وفي نصائحه حياة، وفي مواعضه هداية تتسرب إلى القلوب بلا ضجيج. فالأعمال الخالصة لا تحتاج منصة، يكفي أنها تُكتب عند الله نوراً يمتد أثره ولو لم يعرفه أحد.
الخاتمة:
وسأسير بمنارتي… لا أغشى ظلاماً . ولا ألتفت لغياب، ولا تهزني عواصف الطرق. سأسير لأنني أدركت أن النور الذي أشعلته في داخلي… لم يُخلق ليبقى حبيس صدري، بل خُلق ليعبر، ليصل، ليضيء، ليمنح حياة وينير طريق .
وإن خفت صوت العالم حولي… فصوت النور في داخلي لا يخفت . وإن تغيّرت الطرق… فثبات منارتي لن يتغير.
وإن طال الطريق… فالنور لا يتبدل.


