من أكثر التدقيق… حُرم التوفيق!
“في هذا العالم المقلوب… صار العقل تهمة، والتغافل فضيلة الناجين!”
✍️ راضي غربي العنزي – كاتب سعودي
في زمنٍ صار الناس فيه يضعون العدسات في قلوبهم قبل أعينهم، صار التعامل مع بعضهم يشبه المشي فوق حقل من الزجاج… كل كلمة قابلة للكسر، وكل حركة تُفسَّر على أنها مؤامرة شخصية!
نعيش حياةً مليئة بالتدقيق، حتى صرنا نخسر دفءَ العلاقات في سبيل انتصارٍ شكلي على تفاصيل تافهة.
يا صاحبي…
من أكثر التدقيق حُرم التوفيق، لأنّ الله لا يجمع في قلبٍ واحد بين راحةٍ وتفتيش، ولا بين حبٍّ وحسابٍ دقيق!
> قال تعالى:
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾
(فصلت: 34)
الكبار لا يفتّشون في النوايا، لأنهم يعرفون أن القلب البشري ليس متحفًا يمكن عرضه على العامة.
الكبار يبتسمون، ويمضون، ويدفنون الموقف في حفرة النسيان.
أما صغار القلوب فيحفرون في كل كلمة حتى تفيض جراحهم من الملح الذي صنعوه بأيديهم!
قال رسول الله ﷺ:
> “ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا.”
(رواه مسلم)
ومع ذلك… نرى من يظن أن التسامح ضعف، وأن التغافل استسلام، وأن “تجاهل الخطأ” هو انكسار للكرامة!
يا صاحبي، الكرامة ليست في ردّ الإساءة… بل في القدرة على تجاوزها دون أن تفقد توازنك الداخلي.
البيوت لا تُهدم بالخيانات الكبرى فقط، بل بالأسئلة الصغيرة المتكررة:
“أين كنت؟” “لماذا تأخّرت؟” “من اتصل بك؟”
فتتحوّل الحياة الزوجية إلى نشرة تحقيقات يومية بدل أن تكون مأوى ومودة وسكينة.
والأصدقاء لا يفترقون بسبب الخيانة دائمًا، بل بسبب كلمة عابرة لم تُفسَّر كما أُريدت.
والأرحام لا تنقطع لأن القطيعة قدر… بل لأن أحدهم أراد أن يكون “نظاميًا” أكثر من اللازم!
يا صاحبي، لا تكن مثل الذي يُطفئ ضوء الودّ ليبحث عن شوائب في وجه الآخر.
العلاقات الجميلة لا تعيش في بيئة مثالية، بل في بيئة “تتسامح مع النقص.”
الرحمة تصنعها التغافلات، لا التفاصيل.
يقول المثل العربي:
> “العاقل نصفه تغافل، ونصفه تصافح.”
ويقول المثل الصيني:
> “من يراقب كل ورقة تتساقط… لن يرى الغابة أبدًا.”
فيا ابن اليوم… لا تكن حارسًا على أخطاء الآخرين، كن راصدًا لجمالهم أيضًا.
اترك للناس مساحة يتنفسون فيها بلا خوف من “محكمة التفاصيل”.
غضّ الطرف عن الزلات الصغيرة، فالله – جلّ جلاله – يغفر الكبائر لمن تاب، أفلا تغفر الهفوات لمن أحببت؟
العلاقات يا صاحبي لا تُقاس بالدقة… بل بالدفء.
والقلوب لا تُصان بالمراقبة… بل بالرحمة.
ومن أراد حياة خفيفة، فليُغلق ملفّات الناس، وليفتح صفحة الرضا.
فالعظمة الحقيقية ليست أن تُمسك الآخرين متلبّسين بالخطأ،
بل أن تمسك نفسك متلبّسة بالعفو.
> ومن أكثر التدقيق… حُرم التوفيق.
*الهيئة العامة لتنظيم الاعلام الداخلي 497438
______________________________________________
Radi1444@hotmail.com