*الدمج بين الدراسة والاختبارات النهائية: رؤية نقدية تربوية*

مكة المكرمة
في خطوة أثارت الكثير من الجدل داخل الأوساط التعليمية، عمدت وزارة التعليم إلى تطبيق تجربة جديدة تمثلت في دمج الاختبارات النهائية ضمن الجدول الدراسي اليومي، بحيث يؤدي الطالب اختبارًا نهائيًا في إحدى الحصص الدراسية، بينما تستمر الحصص الأخرى وفق الجدول المعتاد. وعلى الرغم من أن هذه التجربة قد جاءت بدافع التطوير والتنظيم، إلا أنها تثير تساؤلات جوهرية حول جدواها التربوية وآثارها النفسية والسلوكية على الطالب والمعلم على حد سواء.
*أولًا: بين التنظيم التربوي وضغط الجدول الزمني*
من المبادئ التربوية الراسخة أن فترات التقويم – وعلى رأسها الاختبارات النهائية – ينبغي أن تتمتع بخصوصية من حيث التهيئة، والأجواء العامة، والتنظيم النفسي والمعرفي، وهو ما يتطلب انفصالًا زمنيًا واضحًا عن أعباء الحصص اليومية. فالطالب في هذه المرحلة يمر بحالة تركيز ذهني وقلق معرفي تحتاج إلى بيئة هادئة تساعده على استدعاء ما تعلمه طيلة الفصل، لا إلى جدول يومي مزدحم يفرض عليه التنقل السريع بين وضعية التعلم ووضعية الاختبار في آنٍ واحد.
*ثانيًا: آثار نفسية وتربوية على الطالب*
تشير الدراسات النفسية إلى أن الطالب حين يواجه مهامًا تعليمية متداخلة – من تلقي محتوى جديد إلى أداء اختبارات ختامية – يعاني من حالة إجهاد معرفي تؤثر في جودة الأداء والتحصيل. فالانتقال المفاجئ من حصة دراسية إلى اختبار نهائي، وربما تكرار ذلك خلال اليوم نفسه، يربك التوازن النفسي للطالب، ويفقده القدرة على الاستيعاب الكامل أو التعبير عن مخزونه العلمي بدقة. كما أن هذا النوع من الضغوط قد يولد لدى بعض الطلاب مشاعر الإحباط والعجز، ويضعف دافعيتهم نحو التحصيل.
*ثالثًا: انعكاسات مهنية على المعلم*
لم يكن المعلم بمنأى عن هذه التجربة المزدوجة، إذ وجد نفسه يؤدي أدوارًا متداخلة بين التعليم والإشراف والرقابة والتصحيح في وقت واحد. فمن جهة يُطلب منه الالتزام بجودة المحتوى وتقديمه خلال الحصص اليومية، ومن جهة أخرى يتحمل أعباء التقويم وإدارة اللجان وتصحيح الأوراق. وهو ما يتسبب في إنهاك جسدي وذهني يؤثر على مستوى عطائه، ويُفرغ العملية التعليمية من مضمونها المتزن.
*رابعًا: الإدارة المدرسية تحت الضغط*
إن تطبيق مثل هذه التجربة دون تدرج أو تهيئة مسبقة للميدان، أدخل الإدارات المدرسية في حالة من التوتر الإداري، نتيجة لمحاولتها التنسيق بين متطلبات الجدول الدراسي، وتنظيم سير الاختبارات، وتوفير البيئة المناسبة لكليهما. وهذا الضغط قد يؤثر على جودة المتابعة، ويولد حالة من التشتت التنظيمي الذي ينعكس سلبًا على الكل، بدءًا بالطالب، مرورًا بالمعلم، وانتهاءً بالقيادات التربوية.
*خامسًا: التقييم أولًا… ثم التعميم*
ليس من المنطق التربوي أن يتم تعميم تجربة بهذا الحجم دون دراسة علمية مسبقة أو قياس أثر شامل. فالتطوير الحقيقي لا يقوم على مجرد المبادرة، بل على التقييم الرصين، والمراجعة الموضوعية، والانطلاق من احتياجات الميدان لا افتراضات المكاتب. لذلك فإن المأمول من صناع القرار التربوي أن يُخضعوا هذه التجربة لتقييم شامل بعد نهاية العام الدراسي، يشمل تغذية راجعة من المعلمين والطلاب والقيادات المدرسية، قبل التفكير في اعتمادها كنموذج دائم.
*خاتمة:*
التعليم ليس معادلة رقمية يُقاس فيها الإنجاز بعدد الحصص أو سرعة الأداء، بل هو منظومة متكاملة قوامها: الراحة النفسية للطالب، والتقدير المهني للمعلم، وجودة الفهم لا كثافة المحتوى.
وإذا كانت نية التطوير محمودة، فإن آلية التنفيذ ينبغي أن تكون مدروسة، تراعي الخصوصية التربوية، وتُقدّر الظروف الإنسانية للعاملين في الميدان.
*ومضة تربوية:*
القرارات التربوية الناجحة تُبنى على فهم الواقع، وتُختبر قبل تعميمها، وتُراجع عند الحاجة، فليست كل فكرة قابلة للتطبيق، حتى تُثبت جدواها.