المفاضلة المكانية في المناسبات الاجتماعية

قد يلاحظ الزائر أو الضيف في المجتمع العربي عند حضوره لكثير من المناسبات الاجتماعية ارتباك المضيف أو صاحب الحفل خلال مروره من أمام الحاضرين ذهابا و إيابا بحثا عن مقعد ملائم لمنزلة الضيف في المكان المسمى محليا ب ” صدر المجلس”، أو حتى في الأماكن القريبة من صدر المجلس الأمر الذي يجعل البعض من أصحاب المناسبات يتعرضون لحرج شديد أثناء الاستقبال و اطلاق عبارات الترحيب بالضيوف القادمين ومرافقتهم حتى وصولهم الى داخل القاعة المكتظة بالزائرين من المدعوين لحضور المناسبة الاجتماعية حيث يتجاوز عدد المدعوين في أحيان كثيرة القدرة الاستيعابية لمقر الاحتفال بالمناسبة الاجتماعية.
وهنا، وبعد أن تمتلئ القاعة بالحضور، قد يلاحظ البعض ارتباك المضيف – خشية التعرض لانتقاد لاذع من ضيوفه – كما قد يلاحظ البعض حالة القلق و الحرج الشديد للمضيف وهو يجوب القاعة من أمام الجالسين على مقاعدهم بحثا عن مكان شاغر، و لربما بلغ به الحرج الى حد الطلب من بعض الضيوف الجالسين إخلاء مقاعدهم لإحلال ضيوف آخرين يعتقد صاحب الحفل بأنهم أولى بالتكريم و أجدر بالجلوس في المنصة أو الواجهة أو صدر المجلس باعتبارهم أكثر مالا و أعز جاها أو باعتبارهم أعلى منزلة و أرفع مكانة.
وما بين البحث عن مقعد شاغر في صدر المجلس و الطلب من آخرين اخلاء مقاعدهم لصالح قادمين جدد أكثر مالا و أعلى مكانة اجتماعية يواجه كل من المضيف و الحاضرين مسبقا نوعا من الحرج الشديد والامتعاض المرير. فالمضيف يريد كسب احترام و رضا من يرى بأنهم ذوو شأن كبير على حساب بعض الحضور الذين سبقوهم في الحضور والجلوس، بينما نجد أن الضيوف الحاضرين مسبقا قد لا يرغب البعض منهم اخلاء مقعده والقبول بهذه المفاضلة المكانية طالما لديهم الرغبة في استكمال الحديث ومتابعة فقرات الاجتماع الى جانب المجاورين لهم في مقر المناسبة الاجتماعية.
أحاول الآن تسليط الضوء على جذور هذه الإشكالية الثقافية في المفاضلة على المقاعد أو الأماكن عند استقبال ضيوف آخرين لا مكان لهم في قاعة أو مجلس مزدحم بالحاضرين مسبقا إذ تعود المشكلة الى طبيعة الموروث الثقافي في التعامل مع هذه الحالة الاجتماعية ذلك أن أولئك الذين تشربوا بثقافة السلف يعتقدون بأنه من المشين أو المعيب التخلي عن سنة الأولين في تخصيص صدر المجلس لكبار الضيوف و وجهاء الوسط الاجتماعي حتى لو تطلب الأمر ابعاد البعض من الحضور وإحلال ما يسمى بالوجهاء مكانهم دون مراعاة لأسبقية الحضور و الجلوس في صدر المجلس و دون العمل بأي معايير اجتماعية مقبولة لدى طرفي الإشكالية الثقافية وهما صاحب المناسبة و المطلوب منه أو منهم مغادرة صدر المجلس الى أي مكان آخر .
هذه الحالات الاجتماعية تحدث اليوم بشكل متكرر في المناسبات، و كنت شخصيا تعرضت أكثر من مرة لمثل هذه المواقف والحالات الثقافية بعد استهدافي في عملية المفاضلة غير أنني رفضت آنذاك و تجاهلت طلب المضيف مغادرة مكاني في صدر المجلس أو بالقرب منه و تمسكت بمقعدي حتى نهاية المناسبة الاجتماعية ذلك أنه من غير المعقول ومن غير المنطقي أن نطلب من الحاضرين مبكراإخلاء مقاعدهم لصالح ضيوف آخرين جاءوا متأخرين في الوقت الذي لا تتوفر فيه مقاعد شاغرة في “صدر المجلس” أو في محيط صدر المجلس.
هكذا مشكلة ثقافية تتطلب البحث والتقصي و دراسة جذور الحالة الاجتماعية في الموروث الثقافي ومحاولة ترميم الحالة الثقافية و تقديم توصيات واقتراحات للتوصل الى حل توافقي يرضي جميع الأطراف المتورطة في مثل هذه المواقف الثقافية الاجتماعية.
ولذلك أرى أنه من الأفضل التوقف عن طلب اخلاء المقاعد و النظر مثلا في امكانية اخلاء قاعة النساء و دمجها بقاعة الرجال لاستيعاب اعداد إضافية من الضيوف المدعوين، أو رفع لافتات و شعارات تتضمن حجز عدد من مقاعد صدر المجلس لكبار السن و ذوي الاحتياجات الخاصة و وجهاء المجتمع وبالتالي يمكن للمضيف تجاوز مطبات الحرج في هذا المشهد المرتبط بالموروث الثقافي إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المتغيرات التي حدثت مع مرور الزمن وكذلك اختلاف توجهات البشر عما كانت عليه في العصور الماضية من حيث الرفض والقبول بطبيعة المفاضلة المكانية في المناسبات الاجتماعية.
نعلم جميعا وفي هذا الزمن الذي نعيش فيه اليوم أن مصطلح المفاضلة يعد من المصطلحات الحديثة في معاجم اللغة العربية وقد تم استخدام هذا المصطلح لأجل اختيار الأفضل تأهيلا من المتقدمين على الوظائف المعلن عنها من خلال اجراء مسابقات وظيفية و مقابلات شخصية لتحديد واختيار الشخص المناسب لمتطلبات و مهام الوظيفة المعلن عنها في القطاع العام أو القطاع الخاص، ولكن أن تكون المفاضلة في مناسبات اجتماعية تتعلق بتمييز وتقديم وتفضيل فئة على أخرى, فهذا ما لا يتفق مع التعليمات الإسلامية ولا حتى يتفق مع بنود القانون الدولي الإنساني الخاصة بمعاملة جميع البشر سواسية بغض النظر عن اللون والجنس و الثراء المالي والانتماء القومي كما نصّت عليه المادة 26 من قانون حقوق الانسان وكذلك المادة 16 من اتفاقية جنيف الثالثة.