كتاب واصل

فلسفة بناء قرية ذي عين

الكاتب/ جمعان علي الكرَت

يبدو أن ثمرة الكادي هي التي أفضت إلى جماليات البناء المعماري لقرية ذي عين ليتمكن الانسان المليء بالفن والأصالة والجمال من تحويل المكان إلى تحفة معمارية ذات أبعاد ثلاثية وبشكل هندسي فريد، يتطابق مع رأي الفيلسوف كريستيان في الانسجام بين الفضاء والمكان ويتوافق مع رأي يي فوتوان الفضاء يعني الحرية والمكان هو الأمان والإنسان مرتبط بالمكان سعيا للأمان والحرية.

نعود إلى قرية ذي عين فحين يطالع الزائر عن بعد مجمل البناء الكلي للقرية يلحظ بأن ذلك العمل لم يأت عشوائيا بل برؤية فلسفية واجتماعية وجمالية حيث تحقق الانسجام والتناسق مع الجبل الرخامي الذي بنيت عليه القرية لتواجه حقل الموز وحديقة الكادي تطرزها أشجار النخيل الباسق الارتفاع، فيما تنضح العين المائية من الجهة الشرقية لتتدفق المياه العذبة على مر الأيام والسنين تسقي المزارع التي تحيط بالقرية كحزام أخضر بهي، وعند الاقتراب من مشارف القرية تزداد الرؤية لتكون التفاصيل الصغيرة أكثر وضوحا بناء معماري متناسق مشكلا قرية صغيرة تحتضنها الجبال وتحظى بأشعة الشمس الدافئة وشميم عبق الكادي، متى كانت الأرض معطاءة ستلهم الإنسان لأن يبدع في التفكير وهذا الذي تحقق عند بناء تلك القرية التي يزيد عمرها عن ألف عام وكانت مواد البناء من خامات البيئة أحجار مرمرية وأخشاب العرعر للأسقف والنوافذ والأبواب ، وحتى يتكامل فضاء المكان تم بناء المسجد قريبا من المزارع وهو ارتباط إيماني وإنجاز للعمل اليومي في الزراعة وسهولة الوصول إلى المسجد لأداء الفرائض الخمس، واختير موقع الحصن في قمة التلة الرخامية ليسهل على الساكنين المراقبة والحماية، وبقيت فراغات صخرية بين المنازل لتشكل حماية طبيعية يصعب الارتقاء منها.

وبقيت القرية محفوفة بحقول خضراء، تبرز من جبين المنازل نوافذ وكأنها عيون العذارى يسهل من خلالها رؤية الفضاء الخارجي والاستمتاع بجمالياته، وذي عين حملت في ذاكرتها أسطورة قديمة بأن نسرا عظيما حمل جمرة متقدة اقتطعها بمخالبه من إحدى النيازك ليحملها إلى قمة جبل شدا الأشم مساعدة لشقيقه النسر الذي يعاني من فقدان فراخه في الفضاء البعيد دون تمكنهم من معرفة طريق العودة فيتيهون ويشكل حزنا أدمى قلبه لذا تعهد النسر الشقيق أن يقدم له هدية ثمينة عبارة عن جمرة لا تنطفئ لتتمكن النسور الصغيرة رؤية المكان العالي الذي يتسنم قمة جبل شدا ، وأثناء تحليقه عائدا بما وعد ازدادت حرارة الجمرة ليفلتها قبل وصوله لتهوي نحو صخرة صماء لتثقبها فارجة عن مياه محبوسة في جوف الجبل لينبجس الصخر ويتدفق الماء في مكان اطلق عليه فيما بعد ذي عين وهي القرية الأسطورية التي تعيش حتى الآن، تلك أسطورة يعززها حكاية الحاج اليمني الذي فقد عصاه أثناء رحلته لأداء فريضة الحج ومع تعب السفر أراد الاستحمام في بئر وكان حريصا على العصا المجوفة والمليئة بقطع الذهب، ومع ثقلها انزلقت في عمق البئر ليعجز عن اللحاق بها ،إلا أن لديه موهبة رؤية القنوات المائية في باطن الأرض بما يسمى “بالمبصر” ليتابع مسار العصا والقنوات المائية الجوفية تدفعها في مسارها والحاج يواصل السير لتستقر عند صخرة تحول دون خروجها، وبذكاء ودهاء أقنع أهالي القرية بأن كنزا ثمينًا خلف الصخرة “مياه تزيد من نماء الحياة” واشترط أن يأخذ ما يخرج عند خروج الماء، وما عليهم إلا يشمروا عن سواعدهم ويثقبون الصخر الأزرق، بالفعل خرجت العصا مندفعة بفعل المياه المحبوسة لتفقأ عين الحاج اليمني، وكانت تلك الحادثة الغريبة سببا في تسمية القرية ذي عين .

كل مكونات القرية تحكي عن نفسها وكأن ثمة لغة يستوعبها الزائرون حين يتجولون في طرقات القرية وبين حقولها سماعا لخرير المياه وتغريد الطيور، ومشاهدة لأحجارها، وكأن مصمم القرية أراد عن قصد ترك مساحة فضاء لتكون طريقا مستقبليا يصل إليها الزائرون وعشاق الطبيعة وحديقة تأخذ في تصميمها شكل العين، ومن هذه التجربة الهندسية الباذخة يمكن الاستفادة من الدروس العمرانية والفلسفية لمزايا المكان لبناء عمارة مستقبلية ذات خصوصية فريدة بلمسات إبداعية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى