مساحة حرة

الـتسامح بـين الـمنـدوب والـمرفـوض

بقلم أ/ عبد الفتاح بن أحمد الريس

 من مقتضيات الفطرة الالاهية أن الناس جميعهم مختلفين في افكارهم ووجدانياتهم وثقافاتهم وظروفهم الاجتماعية والمعيشية علاوة على معتقداتهم الدينية بنص القرآن الكريم

( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ولذلك لا جرم حينما تنشأ فيما بينهم خلافات أو نزاعات أو عدم توافق أو فرقة ، ولكي تستمر الحياة وفق ما يقتضيه الاستخلاف في الأرض وإعمارها ، فإن هذا ما يتوجب على عموم البشر الأخذ بمختلف الطرق والوسائل التي من شأنها تحقق هذا الهدف ممثلا في التسامح والتعايش السلمي والتعاون مع المحافظة بالكاد على الثوابت الإسلامية ، ولعلنا قبل الدخول في دهاليز هذا الموضوع المهم أن نقف أولا على ماهية التسامح ؟ التسامح مشتق من كلمة سمح أي جاد وأعطى عن كرم وسخاء ، والشيء جعله ليناً سهلا ، وسامحه أي تساهل معه ووافقه على طلبه ، وهو يُمثل قيمة خلقية سامية لمن يسبر غورها ، ووسيلة ناجعة لتقارب القلوب ودفعها لمزيد من التآخي والتآلف والتعاون عدا كونه مدعاة لصفاء الذهن والتخلص من الانفعالات الزائدة والأفكار السيئة المترسبة في الذاكرة والوجدانيات ، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدعوا للتسامح من خلال مفردات أخرى كما في قوله تعالى ( وان تعفوا وتصفحوا فهو خير لكم ) وقوله أيضاً ﴿ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ حيث يعني العفو تجاوز العقوبة أو المعاملة بالمثل ، بينما الصفح يعني الاعراض عن اللوم والتوبيخ . أما المغفرة فتعني ستر العيوب أو إخفاؤها ، فيما أوضح علماء اللغة على أن العفو يكون عن الظالم ، والصفح عن الجاهل ، والمغفرة للمُسيء . يقول مفكر غربي في هذا الاطار ليس الهدف من التسامح تغيير الشخص الآخر ، وإنما هو تغيير الأفكار المتناقضة والسلبية بداخل عقولنا إلى أن قال : وأن التمسك بالأفكار الانتقامية ، وكبت الحب والعطف داخلنا سيؤثر قطعاً على صحتنا ، وعلى جهازنا المناعي ، ولذ ينبغي علينا جميعاً أن نجعل من راحة البال هدفنا الأوحد ، ولعظمة التسامح في استمالة القلوب وامتلاكها لأجل تحقيق أهداف خيرة ونافعة لعموم البشر ، فقد ندب الإسلام وهو دين السماحة لانتهاجه للتعامل مع معتنقي الديانات والملل الأخرى لعل في ذلك ما يدعوهم للدخول في هذا الدين القويم دونما إكراه امتثالا لقوله تعالى ( لا إكراه في الدين ) وهو المنهج الرباني الذي سار عليه أنبياء الله ورسله لهداية أقوامهم ، ودعوتهم لعبادة الله وحده والخلوص له من الشرك . أما في العصر الحديث ، فإن هيئة الأمم المتحدة قد أقرت عام 1995م المبادئ الأساسية للتسامح نظراً لمدى أهميته بين الأمم والشعوب على مستوى العالم ثم ما لبثت أن أنشئت له جائزة مالية لعزيز مفاهيمه تـُـمنح لمن يقوم بمبادرة متميزة بخصوصه ، وذلك كل سنتين وسط احتفال رسمي لليوم العالمي للتسامح والذي يوافق يوم 16نوفمبر من كل عام ، ومع أن التسامح من ناحية أخرى فيه من الأجر والمثوبة العظيمة التي ينالها من يعفوا ويسامح عمن ظلمه أو بخسه الحق إلا أن هناك من الناس من يرفضون ذلك لا سيما في حالة التكرار ، ووقتما يشعرون بالخذلان والاستغلال ، فيما يمتنع فقهاء الأمة التسامح مع الأشخاص ممن لا يزيدهم هذا التسامح إلا تمرداً وطغياناً ، وفي نفس الوقت لابد من مواجهتهم والأخذ بأيديهم واذعانهم للكف عن سلوكياتهم السيئة أو غير المناسبة . أما من يسيئ إلى الذات الالاهية بأي صورة كانت أو يتطاول على الأنبياء والرسل ومن بينهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وزوجاته العفيفات الطاهرات واصحابه الغر الميامين رضوان الله عليهم أجمعين من سب وشتم وقدح ، فهذا يستوجب توقيع العقوبة المغلظة بحقهم دون هوادة ، ومثل ذلك في حالة ممارسة سلوكيات غير أخلاقية أو تعمد التخريب واثارة القلاقل والاضرار بوحدة الوطن ومقدراته فضلا عن السرقة وتعاطى المخدرات وترويجها وهتك الأعراض وقتل الأنفس البريئة والسعي في الأرض فسادا امتثالا لقوله تعالى (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ..) هذا ما اتسع له المقام ، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى