كتاب واصل

|| عربات بريد معطلة ||

✍️ فهد الرياحي

٦ ديسمبر ٢٠٢٥
صندوق حفظ: “خفايا الركام “
مساحات: “مسافات الصمت”

وقفت على رصيف محطةخرجت من حرب لم تذكر في التاريخ الدخان يتصاعد من بين الحجارة كأن الأرض تتنفس بصعوبة. العربات واقفة على السكة مثل جثث معدنية ضخمة، عجلاتها الصدئة تئن وتحمل رسائل وذكريات تتآكل كما تتآكل عجلاتها. أصغي إلى صرير الحديد ونسمع صرير العربات وكأنها تتحدث، كأنه لغة سرية تقول لي إن ” الانتظار ليس مجرد فقد بل شكل آخر من أشكال الوجود”.

كل محطة ليست مكاناً، بل تجربة، اختبار للصبر، للتأمل، ولقدرة الروح على التحمل. المكان والهواء مثقلان برائحة الحديد القديم، المكان خالٍ كصدى حرب لا نراها، وكل شيء يئن تحت وطأة الزمن.

دخلتُ عربة مهجورة وجلست أمام نافذة مكسورة تطل على أشجار هياكلها عظمية، أوراقها تمر كظلال، أصوات تتلاشى، وحياة تختصر نفسها إلى مجرد مرور بلا أثر. العربات المعطلة تواصل صمتها الثابت، صمت يزن المكان ويذكّرني بأن الوقت لا يرحم.

كل شيء حولي غريب، غريب لدرجة تجعل القلب يتساءل: هل نحن الذين هجرنا المكان؟ أم هو الذي هجرنا؟ جلس أمامي رجل طاعن في السن، لم يتكلم في البداية، لكن حضوره وحده كان درساً، وصمته امتداد لبصيرته. كان ينظر إلى العالم من خلال الزجاج المهشم، كأن الزمن كله يمر بين عينيه.

ثم، بصوت خرج من قلب الركام قال: “ما تراه يا بني… ليس دماراً . إنه شكل القلب حين ينهض بعد خذلان .” كلماته لم تكن حديثاً لي، بل تفسيراً للمشهد وشرحاً للصمت الذي يهبط على المكان مثل ثقل الحقيقة.

حملت رسالة كتبتها في لحظة اختناق وضعتها في صندوق قريب، فلم يتحرك، بقي ساكناً، مغلقاً، بارداً، كأنه وُلد ليبقى صامتاً. طرقته لكنه لم يسمع الطرق، ولا يعرف قيمة من يطرقه.

عاد صوت الرجل هادئاً : “القرب يا بني… أحياناً لا يملك عيوناً ولا آذاناً، ليس كل ما يجاورك… يسعدك .” أخذت الرسالة إلى الصندوق البعيد، وهناك اهتز صوت صدى داخله كأنه يعترف بوجود الرسالة، كأن الصمت هناك يملك قلباً وقدرة وقدراً للكتابة . عرفت أن البعد ليس مسافة بل قابلية للفهم.

شعرت أن المقصورة لم تعد مجرد حديد وخشب، بل نافذة على الحكمة، نافذة على المعنى المختبئ في كل عربة، كل محطة، كل رسالة. كل صمت يحمل نوراً خفياً لا يراه إلا من عرف كيف ينتظر وكيف يقرأ بين السطور.

وعندما غادر الرجل المسن من المحطة الأخيرة، عاد لي نفس الرسالة بشكل ولكن بمعنى آخر  : “ما تراه هنا يا بني… ليس دماراً. هذا شكل القلب حين يخرج سالماً من خذلان لم يتوقعه .” 

هكذا .. أعود إلى هذه “العربات المهجورة” أحمل صمتها على أكتافي، وأكتب .. لأن الكتابة لم تكن يوماً هروباً، بل أقسى وأصدق مواجهة للظروف حين تشتد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى