الهوية الوطنية بين العولمة والثورة الرقمية

تشكل الهوية الوطنية اليوم قيمة وأهمية كبرى لدى دول العالم الحديث، حيث تكمن أهميتها في تحقيق الاستقرار وبناء الروابط بين جميع افراد المجتمع، ولذلك تسعى الدول الى تعزيز القيم الوطنية بشتى الوسائل، والتي من شأنها أن تدعم وتعزز الإحساس بالانتماء والولاء للوطن، وتربط جميع أفرداها بغض النظر عن اختلافاتهم الفكرية والعرقية والدينية، وأيضا الاعتزاز بالتراث التاريخي والثقافي التي تعكس ماضيهم، وتترجم حاضرهم ، وتستلهم من خلالها مستقبلهم، ولا سيما أنها منظومة أخلاقية واجتماعية تحفظ وتقوي النسيج الاجتماعي داخل الوطن، وهي بذلك تكون التزام وطني يقع على عاتق كل فرد من أفراد المجتمع. ولهذا أدت ظاهرة العولمة والثورة الرقمية الى التأثير على هويات وثقافات الشعوب، فبعد أن انهارت الحدود بين الداخل والخارج بفعل ثورة الاتصالات والمعلومات، إذ تحققت الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية الغربية، فكل ما تبقى هو الهيمنة الكاملة على الصعيد الثقافي، إذن يبقى التساؤل المطروح ما طبيعة هذا التأثير؟ وكيف يمكن مواجهة تلك التحديات؟ أصبح لظاهرة العولمة والثورة الرقمية، تداعيات خطيرة تهدف إلى طمس الهوية الوطنية لدى الشعوب، ومحاولة القضاء عليها أو تذويبها حيثما أمكن، وهذا لصالح الهويات الافتراضية العالمية، حيث أصبح العالم اليوم مليء بالأحداث والتطورات والنزاعات نتيجة الصراع بين حضارات وهويات مختلفة، ولا سيما الشرق والغرب، ذلك الصراع القديم – الحديث الذي لم نشهده بشكله الحالي، بوسائله وأسلحته الفتاكة، التي تضرب مباشرة في أعماق المجتمعات وهويته. والجدير بالذكر أن المعلومات والإعلام الرقمي أصبح جزء من الحروب الناعمة، والتي تعتبر وسيلة تهدف للتأثير على عقول الأفراد وتوجهاتهم بصورة غير مباشرة، فقد تكون وسيلة من الوسائل التي تشنها دول باعتبارها أداة يمكن توظيفها في التحريض على دول أخرى، أو تشويه وشيطنة شخصيات وطنية، أو بتزييف الوقائع، ونشر الفوضى، أو بالتأثير في قلب الحقائق، مما جعلها الوسيلة الأكثر أهمية ضمن ما يُعرف بـ “حروب الجيل الخامس”. ولهذا يسهل الترويج للأفكار والعقائد، وكما أظهرت لنا نتائج الإعلام الرقمي الذي لعب دورًا خطيرًا ومؤثرًا في دول ومجتمعات حول العالم والتي استخدمتها دول غربية لزعزعة الأوضاع الأمنية، والتشكيك في المعتقدات وطمس دور الهويات الوطنية، وتقويض القيم النبيلة والمبادئ الأخلاقية. ومما لا شك فيه فإن الانفتاح والتفاعل مع دول العالم أصبح أمرًا ضروري ولابد منه، وذلك لمواكبة التطور التكنولوجي والثورة المعلوماتية والرقمية، وفي المقابل فإن الانغلاق قد لا يكون إلا عزلة، وبالتالي حجر عثرة أمام الازدهار والتنمية، وهذا لا يعني التجرد من الهوية الوطنية. وليس جميع تأثيرات العولمة المعاصرة والثورة الرقمية سلبي، فلها مجموعة من التأثيرات الإيجابية، التي تساعد في توظيفها لبث روح الانتماء للوطن الذي ينتمي إليه، ودعم وتعزيز الهوية الوطنية ووحدة الوطن، وتساعد في جعل العالم أكثر إنصافا وعدالة. ولكن في المقابل نجد أن هنالك صراع هويات بين حضارات وثقافات مختلفة، أدت الى ظهور تحديات للدول، والتي تسهم فيه للتمسك بها دون الذوبان والفناء في ثقافة أخرى، وذلك أتى نتيجة للتطورات والصراعات، ولأن الانسان كائن تنافسي” أينما يوجد تبرز التحديات والصراعات، وتحدث الحروب. حيث أصبح من الضروري تحديد مفهوم الهوية والثقافة اللتين تشكلان عملية التأثير والتأثر ، فتعتبر الهوية الوطنية من أهم السمات المميزة للمجتمع، فهي التي تجسد الطموحات المستقبلية لدى الأفراد، وتترجم روح الانتماء لديهم، وتبرز معالم التطور في سلوكهم وإنجازاتهم في المجالات المختلفة، ولها أهميتها في رفع شأن الأمم وتقدمها وتنميتها وازدهارها بل تنطوي على المبادئ والقيم التي تدفع الإنسان إلى تحقيق غايات معينة. الى ذلك أصبح من الأهمية بمكان غرس القيم الوطنية في نفوس الناشئة والشباب، ومن هنا فقد تضمنت أهداف رؤية المملكة 2030 الى تعزيز الهوية الوطنية القائمة على القيم الإسلامية وتعزيز الخصائص الشخصية والنفسية لدى الفرد، ووقايته من المهددات الدينية والأمنية والثقافية والاعلامية وغرس المبادئ والقيم الوطنية والاهتمام باللغة العربية وتعزيز السلوكيات الإيجابية لديه الهوية الوطنية هي مصدر الاستقرار للدول بها تتقدم وتزدهر وبها تسقط و تندثر، ولهذا أصبحت كثير من دول العالم معرضة للخطر بسبب ظاهرة العولمة والثورة الرقمية التي اجتاحت الدول منذ العقدين الماضيين، فبتحقيقها تزداد الدولة وحدة، وبالتالي تزداد تماسكًا وقوة ، وعصياً على الكسر والاختراق