كتاب واصل

متقاعدون ” على دكة الاحتياط “

بقلم / منصور ماجد الذيابي

في حين تنظر المجتمعات الغربية للمتقاعد الغربي بأنه الشخص الذي يملك خبرة عملية طويلة تجعله محط أنظار الشركات والمصانع وكل المؤسسات التي تتنافس للاستفادة من خبراته وتسعى لاستقطابه للعمل لديها, نجد على الجانب الآخر شريحة من المجتمع العربي تنظر للمتقاعد بأنه ذلك الشخص الذي بات قاب قوسين أو أدنى من الحياة ما يدفع البعض لوصف المتقاعد باللهجة المحلية يا الله حسن الخاتمة ” في اشارة لقرب أجله في الحياة على الأرض وبالتالي عليه وفقا لهذه النظرة أن يتجه لمسار الزهد وينتظر على الرصيف استعدادا لعبور قطار العمر, ووداعا لكل أوجه النشاط العملي في الحياة الدنيا.

من هذا المفهوم تتشكل النظرة الاجتماعية للمتقاعد العربي لتأخذ بعدا اجتماعيا يحول بينه وبين العمل لدنياه وفقا لمضمون الآية الكريمة ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا ). ولذلك يشعر المتقاعد نتيجة لإفرازات هذه النظرة التقليدية أن مسيرته عبر خارطة الحياة العملية التي رُسمت له مسبقا قد وصلت الى خط النهاية, وأن عليه حينئذ التوقف عند هذه المحطة والامتناع عن محاولات مواصلة الرحلة بما يتجسد في سعيه لإعادة توظيف خبرته العملية وانجازاته وتجاربه البحثية لأجل استمرار مساهماته وتدفق عطاءه في ميادين العمل امتثالا واتباعا والتزاما بتعاليم الاسلام التي تحث على السعي في طلب الرزق وتدعو الى التأمل والتدبر والتفكر والتحقق والتقصي في كل نواحي الحياة المختلفة ما بقي الانسان على قيد الحياة.

أحاول الآن توضيح الأسباب التي تمخضت عنها هذه النظرة الاجتماعية للمتقاعد العربي اذ أنه في الوقت الذي يتولى بعض المتقاعدين الغربيين قيادة دفة الأمور لكبريات الشركات العالمية أو حتى ادارة كل شئون الأمة في دول عظمى صناعية وغير صناعية, نجد على الجانب الآخر من المرآة أن المتقاعد العربي, وحين بلوغه السن القانونية للتقاعد قد يتولد لديه شعورا يدفعه تجاه عدم الرغبة حتى في ادارة شئون أسرته الصغيرة, وبالتالي يُلاحظ أن هذا الاحساس ينعكس على طبيعة تفاعل المتقاعد مع المجتمع بأن يتوارى عن الأنظار وربما يبادر أيضا بطلب التقاعد المبكر نتيجة للضغط الاجتماعي عليه بأن يتنحى عن وظيفته أو يحال على التقاعد بموجب نظام الخدمة ليفسح المجال أمام الجيل الجديد ويتفرغ ليوم الأجل المحتوم.

ولهذا يضطر المتقاعد أن يغير مساره في الحياه ويتجه الى الزهد, لا لنقص في قدراته البدنية والذهنية وانما لأجل أن يتفادى نقد المجتمع تجاهه لاعتبارات تتعلق بكونه تجاوز مرحلة القدرة على الانتاج وتحقيق الأهداف البعيدة الأمر الذي يدفع أصحاب هذه النظرة للقول بأنه وصل الى مرحلة يتوجب عندها تخصيص كل وقته استعدادا لحياة البرزخ وتأهبا ليوم الجزاء والحساب, ما يثير فيه الشعور بأنه أصبح لاعبا ” على دكة الاحتياط ” ولم يعد ذلك اللاعب الأساسي في فريق العمل.

كما أن هذه النظرة المتشائمة قد تطال حتى المتقاعدين الراغبين في الزواج لغرض الإكثار من النسل رغم علمهم بالآية الكريمة ” وانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ), ورغم علمهم كذلك بالحديث النبوي: ( تزوجوا الودود الولود فاني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ). وكما في نص الحديث, فأن الخطاب في الآية الكريمة موجه لعموم المؤمنين, متقاعدون وغير متقاعدون, وليس فيها ما يدل على استثناء المتقاعد من التعدد في الزواج لعدم قدرته على الانتاج.

بالإضافة الى ارتكاز هذه النظرة الاجتماعية على مفهوم “يا الله حسن الخاتمة “, فهناك الجانب اللغوي الدّاعم لهذه النظرة من حيث أن كلمة ” متقاعد ” مشتقة من الأصل اللغوي لجذر الكلمة ” قعد ” أي ركن الى وسائل الراحة وآثر البقاء على رصيف الحياة أو دكة الاحتياط مثلما يقال في المنافسات الرياضية.

من هذا المنطلق نلاحظ أن النحويين والاعلاميين ساهموا كذلك من خلال اشتقاق كلمة متقاعد في ترسيخ مفهوم التقاعد لأجل بقاء المتقاعد في عزلة تامة مع الذات, شاخصا ببصره الى النجوم في السماء بعيدا عن كل ما يحفّز العقل للتفكير في كل أنواع الماديات ونشاطات الحياة المتعددة. ولذلك أرى لو أن يعاد النظر في اطلاق هذه التسمية والبحث عن مفهوم لغوي آخر لوصف المنتهية ولايته أو المنتهية خدماته نظاميا بقولنا على سبيل المثال : ” غير المتفرغ, أو الخبير, أو المستشار وما الى ذلك من أسماء لا تشير دلالتها اللفظية الى قرب نهاية المطاف كما في كلمة ” متقاعد, أو متقاعدون ومتقاعدات “.

ومن الناحية التنظيمية والتطبيقية بمكننا أيضا تأسيس قاعدة بيانات تتضمن جميع الذين بلغوا السن النظامية للتوقف عن العمل من أجل الرجوع اليهم عند الحاجة لطلب المشورة والرأي السديد من واقع تجربتهم العملية في مختلف جوانب الحياة العملية, أو لطلب تواجدهم في مقر العمل لفترة زمنية محددة كبدلاء جاهزين في حال تعذر تواجد أي من نظرائهم السابقين في فريق العمل ممن لازالوا على رأس العمل كما أوضحت في مقال صحفي سابق بعنوان ” البديل المؤهل”.

وعموما فان لدى هؤلاء الخبراء من المخزون المعرفي ما يجعل خبرتهم وأبحاثهموتجاربهم السابقة تشكل رافدا قويا لتفعيل برامج تطويرية واطلاق مبادرات ورسم آفاق جديدة لخطط استراتيجية سوف تسهم في ايجاد حلول عاجلة وعلاجات ولقاحات فعّالة لكثير من الأزمات والمشكلات والعقبات التي تواجه مختلف الادارات والمؤسسات والمنظمات في القطاعين الحكومي والخاص. غير أننا نستغرب عدم قبول بعض الجهات طلب ” الخبير” العمل وفقا لنظام العمل بالعقود السنوية في حين تتهافت مؤسسات ومنظمات أخرى في قطاع الأعمال بالدول الغربية على ما يملكه هذا الانسان من ارث تاريخي لعقود من التجارب والخبرات العملية, لا يتوفر لغالبية العاملين في تلك المؤسسات باعتبار أنهم لا زالوا في بداية طريق محفوف بالمخاطر والمنعطفات والمطبات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى