كتاب واصل

بين “التغريب” و”خلق القرآن”..

د. عبدالله بن معيوف الجعيد
مكة المكرمة
فتنٌ لعن الله من أيقظها
لا تزال الفتن على الأمة تترى، كلما انقضت فتنةٌ ظهرت أخرى.
فتنة القول بـ”خلق القرآن”.. تلك التي تستنكر اسمها اليوم، شغلت المسلمين ردحًا من الزمان.. تصور أن بعض المسلمين كانوا يقولون بأن “القرآن مخلوق”، حاش لله ولكتابه!!.. تصور أنه تم ضرب وسجن وتعذيب من كان يقول: “إن القرآن كلام الله”، حتى ولو كان إمامًا واسع الصيت، مشهودًا له بالعلم والتقى ومسموع الكلمة؟!
كانت “فتنة خلق القرآن” من أعظم ما ابتُليت به الأمة من فتن، بل ومن أعظم أسباب تفرّقها؛ بل وأذهب إلى أنها كانت سببًا تجاهله المؤرخون من أسباب الانقلاب الخطير الحادث بين العصرين العباسيين الأول والثاني.. وكان أعظم الأسباب الباعثة عليها ظهور الفرق التي أودت بمجد وقوة وسؤدد الأمة.

وكان الله تعالى قد عصم طائفة من المسلمين لم يزالوا ظاهرين على الحقّ، وكانت حجتهم ظاهرة على من خالفهم، وكتب الله الخروج من هذه المحنة، وعصمة الأمة من الزلل في رأيها في كتاب ربها على أيديهم.. وإن تحملوا من الغبن والعذاب الشيء الكثير.. لكن الله تعالى مجازيهم عن كتابه ودينه وأمة المسلمين خيرا.
كانت “الفتنة” في حقيقة الأمر محنة بما تحمل الكلمة من معنى.. كان من يعايشها يكاد يُجزم بأنَّ أمةَ المسلمين لن تقوم لها منها قائمة.
لقد جر جريرة هذه الفتنة في نشأتها الأولى تعمق المسلمين في دراسة آراء الفلاسفة، والتأثر بها؛ حتى حوكمت إليها مسلمات الدين وعقيدة المؤمنين، وقضايا لم يكن بين المسلمين فيها خلافٌ.
كان أول من قال بـ”خلق القرآن” رجل يدعى “الجعد بن درهم” قطن في حي للنصارى؛ فتأثر بجو من آراء فلسفية مسيحية تناقش طبيعة الإله؛ باعتباره المعادل الموضوعي للإشكال النصراني الأول حو “طبيعة المسيح” عليه السلام.
تبنت رأي الجعد فرقة عرفت بـ”المعتزلة”، وقالت إن القرآن مخلوق، لا كما آمن المسلمون، وبدءوا في نشر فكرتهم في عهد الخليفة العباسي المأمون الذي مال إليهم، وأخذ ينشر رأيه بالحديد والنار، وعزل كل قاضٍ لا يقول بقوله المختلَق والمناقض لعقيدة المسلمين بدءًا من الصحابة -رضي الله عنهم- إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
سخرت الدولة طاقاتها في عهود المأمون والمعتصم والواثق في تكريس الفتنة، بدلا من العمل على إنهاء أسبابها وتكريس صحيح العقائد. شغل من شغل بالفتنة عن قصدٍ كالمعتزلة، أو عن جهلٍ كبعض العوام، أو عن خوفٍ من السلطان وتقية كبعض العلماء الذين عز عليهم ما رأوه من فتنة المستمسكين بالحق في مقابل دولة عاتية وصل الأمر بحاكمها أن كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وليس من رجال الفكر، أن يأخذ السوط من جلاده فيضرب العالم المستمسك بدينه بيده، حنقًا عليه.. كان الحاكم الحانق هو “المعتصم بالله” فاتح عمورية ومذلّ الرومان، وكان العالم الرباني هو إمام أهل السنة “أحمد بن حنبل” رحمه الله.
لقد عصم الله -عز وجل- الأمة ونصر الدين بفئةٍ قليلةٍ مستضعفة، لاقت في سبيل الثبات على الحق ألوانا من العذاب؛ فقُتلَ من قُتل، وجُرح من جُرح، وسجن من سجن؛ لكن الله أظهر حجتهم على مخالفيهم، ومكن لهم في الأرض وجعلهم أئمة.
واقع أمة المسلمين اليوم على مقربةٍ من أسباب ظهور تلك المحنة.. ها هم أهل نفاق وهوى وشهوة ينشرون ثقافة الغرب في بلاد المسلمين.. فما من شارعٍ من شوارع المسلمين ولا دارةٍ من داراتهم، لا تصدمك فيه مظاهر التغريب.. يقلد المسلمون الغرب حذو القذة بالقذة.. شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم.
في ارتداء الملابس؛ بل لنقل: في عري النساء، وفي مصاحبة البنات الأولاد، وفي السخرية من شعائر الإسلام، وفي الرطانة بالإنكيزية لغير حاجة.. لقد أصاب هويتنا ما أصابها!!
والأنكى من ذلك الزعم بأن التغريب سبب التقدم؛ بل هو نفسه التقدم.. ألا فليعلم المتغربون أن الغرب لم يتقدم لأنه يمشي يأكل في الشوارع، أو يتسكع في طرقات مدنه وقراه، أو لأن نساءه يتعرين، أو لأنه يتابع آخر خطوط الموضة!! بل إنه جد واجتهد وكابد فيما هو مجدٍ ونافع.
إنَّ التغريب محنة العصر، وفتنة المسلمين في هذه الأيام.. إنه يعمل على سلخ الأمة من هويتها.. لكنه فتنة ومحنة سيقي الله شرها كما وقى شر فتنة ومحنة خلق القرآن.. والله وحده المستعان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى