مساحة حرة

قـالـت لـي خــالــــتي

بقلم/أعبدالفتاح احمد الريس

وبينما كنت ثاوياً عند خالتي لبضعة أيام في سنة قديمة ، وقد رأيتها تقوم بتنظيف كمية من حبوب القمح بطريقة تقليدية سألتها وأنا حديث العهد بهذا العمل . ما الذي تفعلينه بهذه الحبوب ؟ فقالت لي . أقوم بتنظيفه وتنقيته وتخليصه مما علق به من شوائب ، وتمر الأيام وبينما كنت أدرس في أحد المراحل الدراسية ، فإذا بمعلم مادة العلوم يكتب على السبورة موضوعا بعنوان ( تنقية المياه ) وبعد أن فرغ من الكتابة قال : يا أولاد من منكم رأى إحدى قريباته وهي تنقي الحبوب ؟ فقلت له متعجلا أنا يا أستاذ نظراً لمعرفتي المسبقة بهذه العملية ، وكأني أفهم في حينها بأنه يهيئونا نحن الطلاب للدرس الجديد من خلال هذا الربط وتكوين الصورة الذهنية اللازمة للدخول في مضامينه ، وهذا ما قام به معلمنا بالفعل في تلك الحصة ليؤكد لنا في النهاية بأن التنقية مهمة جداً لحياتنا وسلامتنا جميعاً وإن اختلفت الوسائل موضحاً في الوقت نفسه بأن تنقية الحبوب ليست كتنقية المياه أو السوائل الأخرى ولكن الهدف والغاية واحدة . هكذا تعلمت مع بقية زملائي الطلاب في تلك الحصة المشوقة ، وقبل ذلك من خالتي من خلال التدريب العملي رحمها الله ، ووالدتي ، وأسكنهما الفردوس الأعلى في الجنة . أما اليوم فلا نكاد نرى شيئاً مما يقع في أيدينا أو نشاهده أو نسمعه أو نتلفظ به إلا ويحتاج منا إلى مثل هذه التنقية بنوعيها الملموس والمحسوس كالذي يدور في عقولنا وأغوار أنفسنا ، فعلى مستوى التكوين الجسمي فإنه بالرغم من وجود منقيات أو مصفيات أو فلاتر إن صح هذا التعبير بدواخلنا كالرئتين مثلا ، وما شابهها من الأعضاء الأخرى في هذه المهمة إلا أن الواقع الحالي للحياة المعاصرة وما يدور في فلكها من ملوثات فكرية ، وصناعية ، وبيئية تفرض علينا جميعاً مزيداً من الاهتمام والانتباه والحذر والتدقيق والتمحيص والنظرة الثاقبة لكل ما يجري حولنا وما يمكن أن يدخل إلى أجسامنا من مأكولات أو مشروبات ضارة أو من خلال مكاسب مالية محرمة كما في الحديث : ما نبت لحم أو دم على سحت ( أي حرام ) إلا والنار أولى به . أما فيما يتعلق بالسلوكيات ، فلا يخالجنا أدنى شك من أن القوى الخفية أو المدركات الداخلية لذواتنا والتي يطلق عليها العقل الباطني ( بصيرة , ضمير, وجدانيات ) لها ارتباط وثيق بتوجيه هذه السلوكيات نحو أفعل أو لا تفعل والتي إذا ما غـُـلفـت بالإيمان الصادق بالله تعالى أصبحت حينئذ مدعاة لكل خـُـلق كريم كما في قوله تعالى ( وان الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ) أي إلى منهجية حقه ، وتـلكـمُ هي القاعدة الراسخة والينبوع الصافي الذي ينبغي أن نغرف من معينه وأن ننطلق من أتونه في أقوالنا وأفعالنا فلا نقول إلا خيراً بعد أن نجرد ألسنتنا من الكذب والنميمة والكلام البذيء أو الجارح ، ولا نعمل إلا صالحاً بعد أن نجرد قلوبنا وأفئدتنا من الغل والحقد والحسد والكراهية التي نبذها الشرع الإسلامي الحنيف ممتثلين بهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم القائل ( أحب لأخيك ما تحبه لنفسك ) بالإضافة لاختيار أفضل الطرق والأساليب الناجعة في حالة المخاطبة والحوار مع الآخر كما في قوله تعالى ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) وفي آية أخرى ( و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) فنحن إذاً بقدر ما نحتاج لعملية التنقية في مختلف الاستخدامات الحياتية ، والتي كلما كانت أدواتها متطورة وذات جودة عالية كانت أفضل بالكاد بقدر ما نحتاج إليها من خلال منظور إيماني ومعرفي وثقافي ننطلق منه لتنقية قلوبنا وعقولنا وأفئدتنا مما قد علق بها من نوايا خبيثة ، وأفكار سيئة ، وضلالات ، ومفاسد خلقية أو الحيلولة دون حدوثها لأجل أن نعيش في جو مفعم بالمحبة والالفة والتعاون بدلاً من أن نجعل من تلكمُ السلوكيات السيئة سبيلا لإيذاء الآخرين أو سبباً في تعاستهم ، ولأتفه الأسباب أحياناً سواءً أكان ذلك لفظياً أو حركياً أو عن طريق وسائل التقنية الذكية التي تقع في أيدي الكثير منا ، وهذا ما وددنا الوصول إليه في نهاية هذا المطاف ، والله هو الهادي إلى سواء السبيل .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى