مساحة حرة

المعيار المقدس الذي فرطنا به !!!

71
المشرف التربوي : عبدالعزيز بن محمد المقوشي

التعامل مع الحياة واﻷشياء والقضايا واﻵخرين يتغير ويتنوع من إنسان ﻵخر ومن جماعة ﻷخرى بناء على مصالح معينة وثقافات محددة ومجتمعات متباينة وعلاقات مختلفة ، وهذه المتغيرات هي في الغالب ميزان التعامل بين اﻷفراد والجماعات والدول واﻷمم ، بل إن معايير اﻷحكام التي نصدرها حول مجالات الحياة المختلفة والتعامل مع الآخرين تنطلق من هذه الاعتبارات في الغالب ، وما دامت معايير أحكامنا تدور حول المصالح والثقافات والبيئات والعلاقات فإنها حتما لاتصمد أمام النكبات والهزات والكوارث واﻷزمات ، ﻷن معايير أحكامنا وعلاقاتنا ذات طبيعة متغيرة ، واﻵخرون ينظرون إبان اﻷزمات إلى مصالحهم التي ينطلقون منها في تعاملاتهم بالدرجة الأولى ، وليس الخطأ في توظيف تلك المعايير للتعامل مع الحياة والقضايا واﻷحداث ، فاﻹنسان مجبول على البحث عن مصالحه الدنيوية والتعامل مع الآخرين على هذا اﻷساس ، بل يشترط في مجال القضاء اﻹداري توافر عنصر المصلحة لذوي المصلحة للنظر في استعجال النظر تخفيفا من اﻷضرار المحتملة واﻷخطار المحدقة التي لا يمكن تداركها في ظروف جدية في مجال تأجيل تنفيذ القرارات الإدارية الصادرة بحق ذوي الشأن ، وغالبا يتعامل ذوو الشأن في قضاياهم أمام المحاكم الشرعية من منطلق المصالح والمكاسب ، ﻷن كلا المتخاصمين يرى الحق معه ، ولا ضير في ذلك ، ولكن الخطأ كل الخطأ أن نبني علاقاتنا وتعاملنا مع الحياة ومع القضايا ومع اﻵخرين من خلال معايير لا تدور في فلك المعيار اﻹيماني المنبثق من عقيدة اﻹسلام بصفتنا مسلمين ، فاﻹسلام حثنا على الكسب والبحث في المصالح ، لكن ليس على حساب ثوابتنا وعقيدتنا التي من أجلها نحيا ، وفي سبيلها نموت ، وإذا كانت معايير أحكامنا وعلاقاتنا وتعاملاتنا على مستوى اﻷفراد والمجتمعات والدول واﻷمم لا تنبثق من فحوى المعيار العقدي ولا تدور في فلكه اضطربت حياتنا ، وتدهورت علاقاتنا ، وفسدت أحوالنا ، وصارت معيشتنا ضنكا ، والواجب أن تنصهر مصالحنا وتصرفاتنا وعلاقاتنا وتعاملنا تحت مظلة اﻹسلام الخالدة ، بحيث لانعصف بثوابتنا ذات المعيارية الثابتة لحساب تصرفاتنا ، إنما نجعل تلك التصرفات في العلاقات والتعاملات ونحوها في حيز معيار الثابت اﻹيماني الذي تدور في مجاله مختلف المتغيرات ، ولا نوظف المعيار اﻹيماني من أجل التسلق إلى مكاسب دنيوية ، وكأن المعيار اﻹيماني سلم يتسلقه من لايطبق مقتضياته ، فيخدع اﻵخرين ويضللهم ببريق مكره وسراب حيله ، فلو تعاملت الزوجة مع زوجها والزوج مع زوجته من منطلق التعامل مع الله لاستقامت حياتهما ، ولو تعامل رئيس الموظفين مع موظفيه ، وتعامل الموظفون مع رئيسهم من منطلق التعامل مع الله لترسخت قيم اﻹخلاص والنزاهة واﻷمانة والانتماء في البيئات الوظيفية ، ولو تعامل المعلم مع طلابه والطلاب مع معلمهم على أساس التعامل مع الله لتحققت العدالة والمراقبة الذاتية والخلق القويم والسلوك المستقيم ، ولو تعامل رئيس الدولة مع رعيته والرعية مع الراعي على أساس المعيار اﻹيماني لتحققت العدالة الاجتماعية في أبهى صورها ومعانيها ، ولو تعاملت الدول اﻹسلامية مع بعضها البعض ومع الدول اﻷجنبية من منطلق معيار التعامل مع الله لسعدت تلك الدول وأسعدت شعوبها ، وأضحت دولا عزيزة ممكنة ، إن معيار التعامل مع الله هو ميزان الحق والعدل ، وهو الذي لا يخدعك أبدا ، ولايخذلك أبدا ، فمتى نفيق من سباتنا لنجعل مصالحنا في خدمة العقيدة الإسلامية ؟ ولا نوظف معيار العقيدة لتحقيق مكاسبنا الدنيوية ، والفرق بين من يجعل مصالحه وعلاقاته تحت مظلة معيار العقيدة ومن يوظف العقيدة لتحقيق مصالحه واضح تماما ، فمن يستغل معيار الدين للحصول على المكاسب يضع في حسابه هم الحصول على المكاسب فقط ولو ضيع معيار الدين ، ﻷن الدين في نظره مجرد سلم يتسلقه فقط ، ووسيلة يمتطيها لتحقيق مآربه ، أما من يصهر تصرفاته في فلك معيار العقيدة الإسلامية فهو يحاكم سلوكه بمعيار الدين ، ويجعل تصرفاته تحقق معيار الدين الإسلامي .من هذا المنطلق يتعين علينا أن نحاكم تصرفاتنا في ضوء معيار التعامل مع الله ، لتستقيم الحياة ونحقق الغاية من وجودنا فيها ، إن المعلم المقصر في عمله التعليمي ، والموظف المفرط في واجبه الوظيفي ، والمشرف التربوي المتسيب ، حيث لارقيب عليه ولا حسيب لم يتعاملوا في واجباتهم من منطلق المعيار اﻹيماني الذي يستوحي معطياته من التعامل مع الله ، بل فرطوا به لحساب حساباتهم وأهوائهم ، والمرأة التي خرجت من بيتها مسترجلة تزاحم الرجال ، وتطالب بمساواتها بالرجل ، وتحررت من ضوابط الشرع الإسلامي قد فرطت بالمعيار اﻹيماني الذي يربطها بالله ، واﻷمة التي فتحت ميادينها لتيارات التغريب واﻷفكار الليبرالية والتبعية اﻷجنبي ، وهمشت العقول المبدعة ، والطاقات المخلصة ، وأضحت تابعة مقلدة ، مقودة لا قائدة ، قد انسلخت من المعيار اﻹيماني في التعامل مع الله ، وأمست أمة غير مؤهلة ليحترمها اﻵخرون ، ﻷنها تخلت عن مقومات عزها ومجدها ومصدر احترام اﻵخرين لها ، ورضيت لنفسها أن تكون ذيلا يتحكم به اﻵخرون ، فعلى أي أساس يحترمك اﻵخر وأنت لم تحترم نفسك ؟؟؟ !!! حيث تنازلت عن مصدر قوتك ومقومات شخصيتك !! تنازلت للآخر عن مبادئ دينك وقيمه ، وانجرفت مع تيار التغريب ، ليقال لك إنك متحرر متحضر !! وإن أردت أمثلة على ذلك فانظر عقوقنا للغتنا العربية في اﻷسماء والمصطلحات والنشاطات والماركات واﻷزياء ، وتمرد المرأة على قيم الحياء والحشمة ، وانبهار أمتنا اﻹسلامية وولعها بالنظريات الغربية في سياساتها واقتصادها ، وانتشار ثقافة اﻷجنبي في مجتمعاتنا وعاداتنا ، وانزواء قيمنا وأخلاقنا اﻹسلامية في الزوايا والجحور ، حتى صار أحدنا يخجل من الاعتزاز بحضارته وإسلامه !!! إننا أمة ذات أمجاد وبطولات وسجلات حافلات بالحضارة المشرقة التي غيرت وجه الدنيا ، ولدينا ثروات هائلة وطاقات ضخمة تؤهلنا لنعيد صدارتنا وقيادتنا ، لكن مشكلتنا الحقيقية ابتعادنا أولا عن معيار مجدنا اﻹيماني الذي يجب أن نحاكم تصرفاتنا في ضوئه ، وترتب على ذلك عدم استثمارنا الصحيح لثرواتنا الهائلة ، وطاقاتنا الضخمة ، لانجرافنا مع تيارات التغريب والعلمنة والليبرالية ، ففقدنا الثقة بأنفسنا ، وأصابتنا الهزيمة النفسية أمام القوة المادية اﻷجنبية ، فاضطربت معايير تصرفاتنا ، واختلت موازين تصوراتنا ، وابتعدنا عن المحور اﻹيماني الذي يجب أن تدور في مجاله قضايانا وشؤوننا وممارساتنا ، ومن العلاقات التي اختلت عندما لم نتعامل مع الله علاقة الراعي مع الرعية أو ولي اﻷمر داخل اﻷسرة أو الوظيفة ، سواء فيما يتعلق بين الوالدين مع أولادهما ، أو في دائرة العمل الوظيفي ، أو مايتعلق بين الحاكم والمحكوم على نطاق الدولة ، ﻷن تلك العلاقة مرتبطة بالدين ، ومبنية على أساسه ، وليست قضية وطنية من السهل التنازل عنها ، فطاعتنا لولاة أمورنا ليس من أجل ذواتهم وأشخاصهم ، وإنما من أجل كون طاعتهم دينا ندين الله به ، وهذه الطاعة تخضع لقواعد الشرع ، وأمر الله ونهيه ، ومحكومة بمنهجه ، ويجب أن تكون هذه العلاقة على هذا المعيار اﻹيماني ، فالحاكم المسلم ليس بحاجة إلى نفاق المنافقين وتزلف المتزلفين له مهما كانت درجاتهم العلمية ، ومراكزهم الوظيفية ، ﻷنه يستمد سلطته وطاعة الرعية له من المعيار اﻹيماني والتعامل مع الله ، والرعية تستمد طاعتها لراعيها من المعيار اﻹيماني والتعامل مع الله ، وبين الراعي والرعية في ضوء هذه العلاقة المستمدة من الدين قواسم المناصحة والعدالة الاجتماعية والمحاسبة والشفافية والتعاون على البر والتقوى والشورى والمشاركة في اتخاذ القرارات والاستفادة من الثروات والطاقات الضخمة ، ومنح الحقوق والقيام بالواجبات ، وتوفير فرص السكن والوظائف والدراسة بمنتهى التكافؤ والعدالة ، ومحاربة الاحتكار والطبقية والتمييز العنصري ، وإذا انتظمت عناصر التواصل والمشاركة والشفافية والمحاسبة بين الراعي والرعية في نطاق الدولة على أساس منح الحقوق والقيام بالواجبات على ضوء من المعيار اﻹيماني والتعامل مع الله ، استتب اﻷمن ، وسادت العدالة ، وعم الرخاء ، ونهضت اﻷمة في جميع المجالات ، وتمكن العلماء الربانيون ، وتوارى العلماء المتسلقون ، وأضحى معيار التعامل من قبل الراعي لرعيته هو المعيار اﻹيماني المنبثق من عقيدة اﻹسلام الخالدة ، فيؤدي الراعي واجباته نحو رعيته بوحي من الله ، وتؤدي الرعية واجباتها نحو الراعي بوحي من الله أيضا ، ويستشعر كل فرد من الرعية وهو يطيع الراعي أنه يعبد الله بطاعة الراعي ، فلا يحتاج مع تلك الطاعة إلى تطبيل فارغ ، أو امتداح رخيص ، ﻷنه في عبادة ، ومقتضى العبادة لاتحتاج إلا صدق النيات واﻷعمال ، وتحقيق اﻹنجازات على أرض الواقع ، وليس كيل اﻷقوال الرخيصة ، فتتعامل الرعية في طاعتها للراعي بكل مشاعر الصدق والنصح واﻹخلاص طاعة لله وحده ، ولديها منهج السلف الصالح ، منهج الرسول الكريم وصحابته القائم على ركيزتي اﻹخلاص لله والمتابعة ، بلا إفراط أو تفريط وبلا غلو أو تطرف … فمن التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن التمس سخط الله برضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس . والله الموفق .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى